نقلا عن جريدة الدستور المصرية ...
لماذا يكره النظام 55% من سكان مصر؟
أحمد منصور
لم أكن أتخيل ما آل إليه وضع الفلاحين والزراعة في مصررغم الدراسات والتقارير التي اطلعت عليها إلا حينما التقيت قبل أيام مجموعة من الفلاحين في قرية كمشيش أشهر القري المصرية التي وقف فلاحوها ومازالوا في وجه الإقطاع طوال العقود الستة الماضية.
يبلغ عدد الفلاحين في مصر ـ وفق دراسة أعدها الدكتور كمال النجار الباحث بمركز البحوث الزراعية في مصر ـ خمسة ملايين أسرة يشكلون ما مجموعه 55% من سكان مصر أي أكثر من نصف عدد السكان، وهؤلاء موزعون علي 6218 جمعية زراعية ترعي شئونهم، حيث ينتخب رئيس الجمعية من بين الفلاحين ولا يتقاضي أجرًا مقابل ما يقوم به من خدمة للفلاحين، غير أن وزارة الزراعة المصرية استولت في العام 1980 علي أموال الجمعيات الزراعية التي هي أموال الفلاحين والتي قدرت آنذاك بحوالي 250 مليون جنيه وهي التي قدرها الدكتور النجار بأنها بحسابات اليوم تصل إلي 200 مليار جنيه، وهو ما كان يجعل الفلاحين في مصر أفضل ربما من الفلاحين في أوروبا، ولأن الفلاحين لا نصير لهم فلم يجدوا من يقف في وجه الحكومة تجاه ما قامت به تجاههم طوال العقود الماضية، بل إن الجريمة التي قامت بها وزارة الزراعة أصبحت مضاعفة بعدما قامت الحكومة بضخ هذه الأموال التي استولت عليها من الفلاحين في بنك التنمية والائتمان الزراعي الذي أخذ يقرض الفلاحين من أموالهم بفائدة مركبة تصل إلي 18% سنويا، وقد أدي هذا إلي تراكم الديون علي الفلاحين حيث وصل كثير منها إلي أكثر من 300% من أصل الدين المستحق علي الفلاح، وأصبح هناك بحلول العام 2009 أكثر من 140 ألف فلاح مصري أي مائة وأربعين ألف عائلة عائلها مهدد بالسجن في مدة لا تتجاوز نهاية مارس 2009 إذا لم يقوموا بتسديد ما عليهم من ديون للبنك، الذي استولي علي أموالهم عام 1980 ثم أقرضهم إياها بفائدة مركبة مدمرة.
أحد الفلاحين أبلغني أنه اقترض مبلغ أربعة آلاف جنيه من البنك حتي يزوج ابنه بعدما كانت عائدات المحاصيل قبل ذلك تقوم بهذا الأمر إلا أنه عجز عن سداد الدين وقد تضاعف الدين بفوائده حتي وصل الآن إلي عشرة آلاف جنيه وهو عاجز عن السداد ومهدد بالسجن، وعلي هذا المنوال عشرات الآلاف من الفلاحين.
أما المؤامرة علي المحاصيل والزراعة فقد بدأت قبل ما يزيد علي خمسين عامًا حينما أمر جمال عبد الناصر ـ كما يقول الدكتور عبد السلام جمعة الملقب بـ «أبو القمح» في مصر في حوار معه نشر في 21 يونيو من العام 2008 في صحيفة المصري اليوم ـ بزيادة المساحة المزروعة من القمح واستيراده حتي يأكل الفلاحون في مصر رغيف الخبز المصنوع من القمح بدلاً من الرغيف الذي كان يصنع من الذرة، رغم القيمة الغذائية لرغيف الذرة التي هي أكبر من القمح، وقد أدي هذا إلي زيادة الطلب علي القمح ومن ثم استيراده حتي تحولت مصر إلي أكبر مستورد للقمح في العالم رغم أنها بلد النيل ومخزن غلال الامبراطورية الرومانية قبل آلاف السنين، أما القطن الذي كان يعرف في مصر بالذهب الأبيض بسبب العائدات التي كان يعود بها علي مصر طوال العقود والقرون الماضية باعتباره طويل التيلة ومن أجود أنواع القطن في العالم حتي إن جميع المحال الكبري في الدول الغربية كانت تخصص قسما خاصا للمنتجات المصنوعة من القطن المصري التي كانت الأغلي والأكثر طلبا لاسيما من الميسورين من الناس، هذا الذهب الأبيض دُمر علي يد وزراء الزراعة المتعاقبين خلال الثلاثين عاما الأخيرة لاسيما وزير الزراعة الحالي أمين أباظة الذي كان من أكبر تجار الأقطان في مصر وقام من خلال شركاته الخاصة بشراء معظم محالج القطن في مصر في إطار التخصيص، وهذه المحالج تملك مساحات شاسعة من أجود الأراضي كانت تخصص لتخزين الأقطان وقت حصادها وأصبح معظمها داخل حدود المدن والقري مما جعلها الأغلي من حيث القيمة المالية لاسيما بعد تخصيصها، والقضاء علي زراعة القطن يعني إغلاق هذه المحالج ومن ثم بيع أرضها بأثمانٍ عالية وهذا ما تتداوله بعض الأوساط من أنه يحدث الآن بالفعل، حيث تتردد شائعات بأن وزير الزراعة باع أحد المحالج في مدينة طنطا مؤخرا بقيمة مالية تعادل ما دفعه في خمسين محلجًا، وهذا يفسر ـ إن صح ـ سر هجومة علي القطن مما دفع الفلاحين للإعراض عن زراعته، فقد بدأ وزير الزراعة أمين أباظة هجومه علي القطن بوصفه مرة «بأنه طربوش القرن الماضي» ومرة في حوار نشر في 2 يونيو 2008 بأننا «لم نعد ملوك القطن»، وكان من الطبيعي أن يعرض الفلاحون عن زراعة القطن بعدما نجح مخطط الوزير في صرف الفلاحين عن زراعته، فلم يعد هناك أي اهتمام من قبل وزارة الزراعة بمكافحة الآفات التي تهاجم القطن، كما ألغيت الدورة الزراعية، حتي انخفضت نسبة الأراضي المزروعة بالقطن في العام 2008 عن المساحات التي كانت مزروعة في العام 2007 بنسبة 80% في معظم أنحاء مصر، ولم تزد المساحة المزروعة في العام 2008 عن 300 ألف فدان بعدما كانت مليوني فدان من قبل، وهذا يعكس النجاح الباهر الذي حققه الوزير في تدمير زراعة القطن أهم المحاصيل الزراعية في مصر، أما محصول الذرة فإن وزارة الزراعة تعتذر عن استقبال المحصول من الفلاحين مباشرة متعللة بوجود عيوب فيه، غير أنها تستقبله كما قال عبد المجيد الخولي أحد كبار المدافعين عن حقوق الفلاحين في مصر في حواره معي في برنامج «بلاحدود» لحلقة الأربعاء 25 فبراير 2008 من التجار حيث قال إن خمسة من التجار هم المعتمدون لدي الحكومة يشترون من الفلاحين الذرة بسعر يقل مائتي جنيه عن سعر التوريد في الأردب الواحد لتصب هذه المليارات من الفروق بين 120 جنيها يتقاضاها الفلاح من التاجر و320 يتقاضاها التاجر من الحكومة في جيوب هؤلاء الخمسة علي حساب ملايين الفلاحين الذي يعانون الفقر والعوز في مصر، بينما توجه الخيرات لصالح عدد محدود من المحظوظين القريبين من السلطة أو المشاركين فيها.
الفلاحون يتم دعمهم في جميع أنحاء الدنيا، لكن ما يحدث للفلاح المصري من عملية إفقار وتدمير منظم، يفوق الخيال حيث ينهشه المرض والجوع والفقر بعدما كانت بيوت الفلاحين طوال العقود الماضية لا تخلو من الخير الذي تجود به الأرض، أما الآن فإن الفلاح يشتري حتي لقمة الخبز التي يأكلها، أما ما يحدث للزراعة في مصر فإنه يتجاوز حدود المؤامرة إلي الشراكة المباشرة في تجويع الشعب وإفقاره وتحويله إلي شعب يتسول غذاءه فلا قمح ولا ذرة ولا قطن ولا شيء مما كانت تتميز به مصر طوال تاريخها والذي لا يملك قوته لا يملك قراره، أما المسئولون عن الزراعة فإنهم حققوا لأعداء مصر ما يعجز الأعداء أنفسهم عن تحقيقه، ولا ندري لصالح من إفقار نصف المصريين وتدمير أرزاقهم وأراضيهم، بينما النصف الباقي ليس أحسن حالا من النصف الأول في الوقت الذي يباع فيه كل ما في مصر بثمن بخس لعدد محدود من المحظوظين والمنتفعين والمتآمرين أو عبرهم للأجانب الذين يشترون كل شيء بثمن بخس، مِنْ الذي يدافع عن أرض مصر إذا تم تجريد الفلاحين من أراضيهم وتحويلهم من ملاك إلي أجراء؟، ومِنْ الذي يدافع عن مصانع مصر إذا تم بيعها للأجانب وطرد العمال منها كما يحدث الآن؟، ومِنْ أين يتم زراعة الانتماء في نفوس الشعب إلي بلده بينما يتملك الأجانب معظم الأصول بثمن بخس في شكل جديد من أشكال التواطؤ والاحتلال؟
الذين يختطفون مصر ويتواطأون ويتآمرون علي شعبها وتاريخها وحضارتها وزراعتها وصناعتها وأملاكها ،يعتقدون أن الزمن في غفلة عما يقومون به، وأن الشعب مستضعف ومستكين ومغيب، لكنهم لا يدركون أن يوم الحساب دائما قريب، وكما قال الفلاح المصري البسيط في ختام حواري معه «إن مصر ليس لها مستقبل بدون الفلاحين فهم حاضر مصر ومستقبلها» تماما مثل باقي الشعب الذي يعتقد الذين ينهبون خيراته أنه لن يفيق من غفوته ولن يستيقظ من سباته، فالشعوب قد تغفو وقد تنام وقد تستكين تحت القهر والظلم لكنها أبدا لا تموت .