د. أسامة الغزالى حرب يكتب: وزارة تنمية سيناء!
١٥/ ١٢/ ٢٠٠٨
قفز اسم سيناء مؤخرا إلى مقدمة الأنباء، ليس لأسباب عسكرية كما كان يحدث فى الماضى، وليس لأسباب سياحية أو مؤتمرات واجتماعات سياسية، كما أخذ يحدث الآن، وإنما لأسباب أمنية واحتجاجات ومصادمات واتهامات متبادلة بين أهالى شمال ووسط سيناء، وبين بعض الأجهزة الأمنية.
وفى حين اتهمت وزارة الداخلية والناطقون باسمها بعض أهالى سيناء (أو كلهم!) بأنشطة مخالفة للقوانين تشمل تجارة السلاح والمخدرات والتهريب.. إلخ، فضلا عن أحداث الشغب والتجمهر، فإن أهالى سيناء اتهموا الأمن بسوء معاملتهم، والاستخفاف بعاداتهم وتقاليدهم بل بأرواحهم.
وكانت تلك التطورات دافعا لأن نعقد فى حزب الجبهة الديمقراطية ندوة يوم الاثنين أول ديسمبر تحدث فيها النائب مصطفى بكرى (الذى كان ضمن وفد مجلس الشعب لتقصى الحقائق هناك)، والدكتورة نهلة عبدالله إمام، أستاذ الفنون الشعبية بأكاديمية الفنون والمتخصصة فى الفن والتراث السيناوى، والسيدة شيماء حرم مسعد أبوفجر، الناشط السياسى السيناوى والمعتقل الآن لما يقرب من العام دون أن يقدم للمحاكمة على تهمة معينة.
ولم يكن من الصعب لأى متابع لتلك الندوة، بل لأى متابع للقضية كلها طوال الأسابيع الماضية، أن يخلص إلى نتيجة واضحة تلخص الموقف كله، هى أن فشل الدولة المصرية، بعد ربع قرن من تحرير سيناء واستتباب السلام، فى أن تفى بوعودها فى تنمية سيناء، وتعميرها، وتوفير حياة كريمة لمواطنيها،
بل جذب مواطنى الوادى إليها - هو أس المشاكل كلها. وهى النتيجة نفسها التى وصلنا إليها فى بداية العام عندما لاح خطر اقتحام آلاف الفلسطينيين للحدود مع غزة، والذى ألقى الضوء الكاشف على أفكار ومخططات إسرائيلية (ليست سرا!) لدفع الفلسطينيين إلى شمال سيناء، وحل مشكلة غزة على حساب مصر.
قضية تنمية وتعمير سيناء إذن عادت لتفرض نفسها بقوة أكثر من أى فترة سابقة، على نحو لا ينبغى تجاهله أو التقليل من شأنه، ولن أكرر هنا -ابتداء- أى عبارات فخمة وطنانة مثل القول إن قضية سيناء هى «قضية أمن قومى»! (وفى الواقع فإننى لا أحبذ هذا الميل للإسراف فى إسباغ الصفة «الأمنية» على القضايا التى نريد إبراز أهميتها،
وكأن هذا التهويل أصبح موضة أو حيلة نفسية نستعيض بها عن الحل الفعلى لها مثلما أكدنا أن التعليم أمن قومى، والقمح أمن قومى، والماء أمن قومى! وكلها قضايا تتراجع فعليا!).
ولن استعمل عبارات شائعة وبدهية ولا تعنى شيئا بذاتها مثل تكرار أن سيناء هى البوابة الشرقية لمصر! وكذلك لن أدعو إلى أن يكون تعمير سيناء هو (المشروع القومى) الذى انتظرناه طويلا!
فالواقع أن أمامنا قائمة طويلة من المشروعات القومية التى لا تقل أهمية عن تعمير سيناء: فإصلاح التعليم مشروع قومى حيوى، وكذلك تحسين الخدمات الصحية، وتوفير السكن الملائم، وتوفير الوظائف لملايين المصريين... إلخ.
فقط بتواضع، أقول إننا الآن يجب أن ننظر من زاوية أكثر جدية ومسؤولية لقضية تنمية سيناء وأن نتبع -بالتالى- منهجا أكثر فاعلية لتنميتها وتعميرها، سواء بالمقارنة مع ما تم بالفعل، أو بما يحدث على الجانب الآخر من الحدود، أو بما ينبغى أن يتم من روح جديدة وفكر جديد.
المشروع القومى:
من الناحية الأولى، هناك بالفعل «المشروع القومى لتنمية سيناء» وهو مشروع طموح، بدأ تنفيذه عام ١٩٩٢ على تصور أن يمتد حتى عام ٢٠١٧ باستثمارات قدرت بـ ٧٥ مليار جنيه، واستهدف ربط سيناء بمصر والخارج، وإحداث تنمية فى البنية الأساسية والصناعة والهيكل العمرانى بما يرفع سكان سيناء إلى ٣ ملايين نسمة،
وهناك أيضا الجهاز التنفيذى لتعمير سيناء التابع لوزارة الإسكان والذى قام بعدد من المشروعات لتوفير مياه الشرب، والصرف الصحى والكهرباء، والطرق، وكذلك المرافق اللازمة للخدمات الأساسية، أى التعليم والعلاج والإسعاف والمطافئ والشرطة والأوقاف والمبانى الحكومية ودور العبادة.. إلخ، غير أنه وباختصار شديد،
ووفقا للبيانات الرسمية، فإن نسبة الإنجاز لم تتعد فى أفضل التقديرات ٣٠% من المستهدف، وتبدو الصورة أكثر كآبة عند تأمل مصير ترعة السلام، التى كان يفترض أن يقام عليها ٢٣ مأخذا لمد خطوط المياه، لم ينفذ منها إلا مأخذ واحد، مما أدى إلى إهدار ٦٠٠ ألف فدان، و٥٠ مليون شجرة زيتون كان مخططا زراعتها.
وإجمالا، لم يستصلح إلا ١% من الأرض التى كانت مستهدفة. غير أن الأدهى من ذلك هو أن استخدام مياه ترعة السلام بحالتها الراهنة (شديدة التلوث!) يمكن أن يشكل خطرا على البيئة فى سيناء، مما يحتم معالجتها وتنقيتها! (الأهرام فى ٧ يوليو ٢٠٠٧ - دراسة علمية تطالب بالمعالجة الجيدة لمياه ترعة السلام).
من ناحية أخرى، توقف مشروع ربط سيناء بالوادى بالسكك الحديدية.. إلخ! أما الثلاثة ملايين مواطن الذين كان منتظرا جذبهم إلى سيناء فلم أستطع أن أجد مصدرا يحدد كم ذهب منهم، إذا كان أحد قد ذهب أصلا.
ومع أننا يجب أن نشير أيضا إلى جهود خاصة لا يمكن إنكارها وتحديدا جهد المستثمر المصرى حسن راتب فى مجالات السياحة وصناعة الأسمنت، فضلا عن إنشاء جامعة سيناء بالعريش (والتى لا أمتلك تقييما موضوعيا لمستواها العلمى من مصدر محايد) ..
إلا أننا لابد أن نخلص فى نهاية المطاف - للأسف الشديد - إلى التواضع الشديد لنتائج مشروع تنمية سيناء إجمالا، فضلا عن عدم استفادة أهالى سيناء منه حتى الآن، على نحو مباشر أو ملموس، بل إن معاناتهم ومشاكلهم تتفاقم مع تزايد الفقر والبطالة، بما يخلق تربة صالحة لجميع أنواع الأنشطة غير المشروعة.
النقب!
غير أن الصورة تبدو - للأسف - أكثر إيلاما، ليس بمقارنة ما يتم فعليا بما هو مستهدف من مشروع تعمير سيناء، وإنما أيضا بمقارنته بما يحدث على الجانب الآخر من الحدود. وليس عيبا على الإطلاق أن نتعلم من أعدائنا وخصومنا، بل إن الغيرة والشعور بالمنافسة أمر مطلوب لنشحذ الهمم، ولنتخلى عن التراخى والكسل والاكتفاء بما هو مألوف.
فصحراء النقب، التى تشكل امتدادا لسيناء على الجانب الآخر من الحدود مع إسرائيل، والتى تبلغ مساحتها ١٤ ألف كيلو متر مربع (أى ما يزيد على نصف مساحة إسرائيل) تشهد -على العكس تماما- عملا تنمويا طموحا ومثمرا يتركز بالذات حول البحث العلمى والتكنولوجيا على نحو لا يمكن إنكاره.
ففى صحراء النقب، يوجد مفاعل ديمونة النووى، ولكن الأهم من ذلك أنها اختيرت بالذات لإنشاء جامعة بن جوريون -فى مدينة بئر سبع، كبرى مدن النقب- بهدف المساهمة فى تطوير منطقة النقب عن طريق التعليم والبحث العلمى،
خاصة من خلال المعهد الوطنى لتقنية علوم الأحياء «البيوتكنولوجى»، ومعهد أبحاث الصحراء، وخلال خمسة وثلاثين عاما - منذ إنشائها - نالت الجامعة شهرة عالمية فى أبحاث تطوير الزراعة الصحراوية، فضلا عن أبحاث الصناعة والتعليم وشؤون البدو. وفى الواقع، فإن تطوير وتحديث منطقة النقب كان أحد أحلام بن جوريون الذى قال «إن النقب هى المستقبل» واختار أن يعيش فيها، وكذلك فعل آرييل شارون.
ورصدت الحكومة الإسرائيلية مبلغ ٣.٦ بليون دولار لتنفيذ خطة عشرية (بين ٢٠٠٥ و٢٠١٥) لتنمية النقب بالتركيز على صناعات التكنولوجيا العليا والتكنولوجيا الحيوية، إلى جانب مشروعات البنية الأساسية والإسكان، والتعليم والسياحة! فضلا عن استهداف زيادة عدد السكان من ٥٣٥ ألفا إلى ٩٠٠ ألف!
كما أنشئ بالفعل خط للسكك الحديدية يربط مدينة بئر سبع (وجامعة بن جوريون) بقلب إسرائيل. وبعبارة موجزة، فإن التنمية المتسارعة لصحراء النقب تطرح تحديا خارجيا إضافيا، للإسراع فى تنمية سيناء، فضلا عن مخاطر ومؤامرات دفع فلسطينيى غزة إلى شمال سيناء (وهى مخاطر حقيقية وليست وهمية!).
منظور جديد:
فى مواجهة هذه الحقائق، لابد من وجود نظرة جديدة إلى تنمية سيناء، تتجاوز مجرد استكمال أو استئناف أو تنشيط المشروع القومى لتنمية سيناء، وأتصور هنا التركيز على ثلاثة عناصر:
أولاً: إيجاد مكانة أساسية للبحث العلمى الذى يتصدى لخصوصية بيئة سيناء الطبيعية والبشرية، ويسهم فى استثمار كنوزها وإمكاناتها، ويمكن أن يتم ذلك بجهود الجامعات المصرية ومراكز الأبحاث التى ينبغى عليها أن تنقل بعض مراكزها إلى قلب سيناء، ومدنها المختلفة، والمجالات مفتوحة بلا حدود لأبحاث الصحراء، والطاقة الشمسية وحماية البيئة والزراعة والمياه... إلخ.
ثانيا: جذب أكبر عدد من الكوادر العلمية والإدارية للعمل فى سيناء مع توفير درجة عالية من اللامركزية وحرية الحركة واتخاذ القرار بعيدا عن الروح البيروقراطية التقليدية فى العاصمة ووادى النيل، وبعبارة أخرى، فإن النجاح والازدهار الذى يشهده أقصى جنوب سيناء سياحيا (خاصة فى شرم الشيخ) ينبغى أن تتكرر عناصره صناعيا وزراعيا وتعليميا وأيضاً سياحيا فى باقى أقاليم سيناء.
ثالثا: الاعتماد بالدرجة الأولى فى جميع العمليات التنموية فى سيناء على أبنائها، فأهالى سيناء وأبناؤها ينبغى أن يكونوا هم أداة التنمية، وهدفها الأول.. يعنى ذلك فى جوهره أن يكون التحديث الاجتماعى والثقافى فى مقدمة أهداف تعمير سيناء، وهو تحديث ينبغى أن يتم بشكل علمى مدروس ويتعامل بحذر وحساسية مع الثقافة المحلية وتقاليدها.
فى هذا السياق، فإننى أطرح هنا فكرة إنشاء «وزارة لتنمية سيناء» لأكثر من سبب:
فتنمية سيناء - فى ضوء ما ذكرنا - أهم بكثير من أن تكون مهمة وحدة إدارية فى وزارة الإسكان، اسمها جهاز تعمير سيناء، كإحدى وحدات الجهاز المركزى للتعمير، الذى هو بدوره واحد من قطاعات عديدة فى الوزارة تشمل التخطيط العمرانى، والمياه والصرف الصحى وتمويل المساكن والمجتمعات العمرانية وتعاونيات الإسكان وبحوث ورقابة البناء، فضلا عن الإشراف على شركة المقاولون العرب.
وبهذا المعنى أيضا، فإن تنمية سيناء أكبر بكثير من أن تكون قضية تعمير وإسكان، إنها قضية سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية من الطراز الأول تستوجب التعامل معها على المستوى نفسه من الأهمية.
وسوف تكون مهمة «وزارة تنمية سيناء» هى إنجاز المشروع القومى لتنمية سيناء (بعد تنقيحه وتطويره) بدءا من حشد الموارد المالية والبشرية، وحتى عمليات التنسيق بين مختلف الجهات المعنية، بما فيها القطاعان العام والخاص مع إعطاء زخم سياسى ومعنوى خاص لتلك الجهود.
ولقد عرفت مصر تجارب لوزارات أنشئت لتحقيق مهام محددة، وانتهت بانتهائها، لا شك فى أن أهمها كانت وزارة السد العالى التى أنشئت عام ١٩٦١ وأسندت حينها إلى المهندس موسى عرفة ثم تولاها المهندس محمد صدقى سليمان فى سبتمبر ١٩٦٢..
وظلت قائمة إلى ديسمبر عام ١٩٧٠، حيث لم يعد هناك مبرر لوجود وزارة للسد العالى بعد إنشائه، كما عرفت مصر منصب (وزير شؤون مدينة بورسعيد) وهى وزارة تشكلت لمهمة مؤقتة فى ديسمبر عام ١٩٥٦ عقب العدوان الثلاثى لإعطاء دفعة قوية لإعمار بورسعيد، وتولاها فى ذلك الوقت السيد عبداللطيف البغدادى،
كذلك عرفت مصر منصب الوزير المقيم بمنطقة القناة فى أول وزارة تشكلت عقب حرب عام ١٩٦٧، وتولاها السيد على صبرى (نائب رئيس الجمهورية فى ذلك الحين) لإعادة ترتيب الأوضاع هناك.
والآن، وعقب أحداث يناير ٢٠٠٨ التى هددت باقتحام الحدود المصرية مع غزة، وأحداث نوفمبر وديسمبر التى ألقت الضوء على متاعب ومشاكل أهالى سيناء.. ألا ينبغى أيضا التفكير فى إنشاء «وزارة تنمية سيناء»؟!