نقلا عن الحوار المتمدن - العدد: 1539 - 2006 / 5 / 3
أثار اقتراح العالم المصري الدكتور فاروق الباز مدير مركز أبحاث الفضاء بجامعة بوسطن والخاص بتنمية جنوب الوادي والصحراء الغربية في الأيام القليلة الماضية غضب بين أوساط الباحثين بمراكز البحوث المصرية المختلفة والذين قدموا دراسات موضوعية على مدار أكثر من سبعين عاماً طالبوا من خلالها بالخروج من دلتا النيل الحالي والاتجاه إلى استزراع وتعمير كل شبر من أرض مصر واستغلال طبوغرافية مصر المؤهلة للإنتاج والاستزراع .. أكد الباحثون أن المشروعات المقترحة كانت قد شرعت في تنفيذها حكومة الثورة في الفترة من عام 1953 وحتى عام 1969 ورصدت لها الميزانية اللازمة إلا أن جميع المشروعات توقفت بأكملها بسبب الحروب .. وأضاف الباحثين أن حكومة السلام وخاصة خلال الربع قرن الماضي أهلت جميع الأبحاث لدرجة جعلت من المراكز البحثية مجرد هياكل خرسانية لا جدوى منها مما ساهم في وقف عجلة التنمية التي شرعت فيها حكومة الثورة وطالبوا أن لا تكون عملية طرح المشروع من جديد للدراسة مجرد " ورقة لعب " يناور بها الحزب الوطني وحكومته لتخدير الشعب الثائر المطالب بالإصلاح .
الحلم .. هل يكتمل ؟
وكان الدكتور فاروق الباز قد قدم مشروع تعميري يربط شمال مصر بجنوبها واستصلاح 1.5 مليون فدان جديد لزيادة الرقعة الزراعية بالإضافة إلى انشاء طرق وخطوط مياه وكهرباء لتنفيذ تجمعات متنوعة في الصحراء الغربية والمشروع الجديد يشمل التنمية الزراعية والصناعية والسياسية والتعليمية .. إلخ
كما ضم المشروع طريق سكة حديد يربط الشمال بالجنوب وخط أنبوب مياه للشرب وخط للكهرباء بما يمكن معه توصيل الخدمات للتنمية العمرانية المتكاملة ما بين الطريق المقترح ووادي النيل .. كما سيتم توصيله بـ 12 طريق عرض للربط بوادي النيل على مسافة تبدأ من 10 كيلو مترات وحتى 80 كيلو متراً أي بعدد 12 ممر عرضاً لربط الطريق بالوادي .
وأضاف الدكتور فاروق أن مصر في حاجة إلى هذا المشروع خاصة في الوقت الحالي بعد أن قدت الدلتا 32% من أخصب أراضيها بسبب التعدي عليها متسائلاً : ما المبرر لأن تتكدس في 24% فقط من مساحة مصر في الوقت الذي تستطيع فيه أن نعمر الـ 76% الباقية من مساحة مصر صحاري ؟
زراعة الصحراء
ويقول الدكتور أحمد مستجير أستاذ الوراثة الزراعية بجامعة القاهرة أن تستورد الدول العربية كميات كبيرة من القمح ومن هنا جاء السؤال : كيف يمكن أن نحقق الإكتفاء الذاتي من القمح والأرز والذرة ؟ وكان معنى ذلك أن تحقيق الإكتفاء لن يتم إلا بالاتجاه لزراعة كل شبر من أرض مصر الصحراوية التي تحوي في باطنها المياه الجوفية الكافية لعملية الزراعة والإعاشة كذلك المناطق المجاورة للبحيرات المالحة " المرة " .
هنا ولدت الفكرة التي أعتمد عليها العلماء المصريون بمركز بحوث بيوتكنولوجيا النبات داخل كلية الزراعة بجامعة القاهرة عملية التهجين بين نبات " الغاب " الذي ينمو في مياه مالحة وبين خلايا نباتات الأرز والقمح والذرة وكانت الدراسات الفنية تعتمد على فصل البروتوبلدست من كل من الأرز والقمح والذرة والغاب وإحداث اندماج خلوي بينهم باستخدام أسلوب الإندماج الكهربائي .. واستمرت الدراسات طوال 15 عاماً استطاع العلماء الوصول إلى الإندماج الخلوي بنجاح وانتخاب العديد من السلالات من كل من الأرز المهجن " 12 سلالة " والقمح "8 سلالات " والذرة " 4 سلالات " وتم اختبار هذه السلالات تحت ظروف الملوحة المرتفعة والجفاف والحرارة العالية .. وبعد الانتهاء من عمليات البحث تم اختبار هذه السلالات لعدة أجيال في الأراضي الزراعية الصحراوية المختلفة تحت ظروف الملوحة المرتفعة والجفاف ثم خضعت هذه السلالات الجديدة لتحليلات وراثية باستخدام " AFLP " وأجريت عليها الدراسات التشريحية وتحليل كميائي للبذور الناتجة سواء كانت حبوب أرز أو قمح أو ذرة .. وكانت النتيجة زراعة عشرات الأفدنة من هذه السلالات التي تحملت بالفعل درجات الملوحة العالية " 320000 جزء في المليون = ملوحة ماء البحر " ودرجات الحرارة التي وصلت إلى 60˚ .. كما أثبتت التجارب امكانية زراعة تلك السلالات في الأراضي ذات المستويات العالية الملوحة وريها بمياه الصرف الصحي حتى النضج وتكوين الحبوب في ظل ظروف تلك البيئة مع الاحتفاظ بالقيمة الغذائية والاقتصادية العالية من حيث نسبة البروتين العالية والأحماض الأمينية والسكريات المختزنة والعناصر الغذائية .. كما أمكن زراعة هذه السلالات تحت ظروف الجفاف واستخدام مياه ري ضئيلة حتى يمكن توفير حوالي 65% من معدلات المياه المستخدمة في التربة العادية بواقع " 2500 متر مكعب ماء للفدان " مما سيساهم في توفير ملايين الأمتار المكعبة من المياه العذبة .
ويضيف الدكتور / الشيحي علي أستاذ الهندسة الوراثية : نجحت التجارب في إنتاج محصول ذرة شامية يتحمل الملوحة المحتملة بالإضافة إلى إنتاج محصول ضعف المحصول المنزرع في البيئة العادية بالإضافة إلى الإنتاج الخضري اللازم بتربية الثروة الحيوانية بها يعادل أربعة أضعاف المساحة لو تم زراعتها بمحصول البرسيم .
الصدفة صنعت الحلم
كما وجه المهندس إبراهيم شفيق نجدي الباحث الزراعي نداء إلى القيادة السياسية مطالباً بتشجيع الشباب على التعمير بنفس الحماس الذي شاهده في البطولة الرياضية الماضية ومطالباً الحزب الوطني وحكومته بتنفيذ الوعود التي طرحت في برنامج الحزب لإنتخابات الرئاسة والبرلمان الماضية فيقول : علينا تعمير الصحراء وإنشاء مدن جديدة والاتجاه إلى الزراعة من خلال الدعوة لثورة تعمير مثل تلك التي بدأتها حكومة الثورة سنة 1952 .. فقد دعت الحكومة في سبتمبر عام 1952 إلى مشروع الإصلاح الزراعي ثم صدر قانون الثورة رقم 245 لسنة 1952 والخاص بإنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي للتوسع في الزراعة وتوفير القوت للشعب المصري والعربي .. واتجه الخبراء إلى اعادة زراعة كل شبر من أرض مصر واستغلال القوى العاملة في التعمير .. وكانت هذه المشروعات تتمثل في استصلاح دلتا النيل القديم " شبه جزيرة سيناء وواحات مصر الخمسة وصحراء المنيا " وغيرها من المناطق التي كانت منزرعة منذ عصور بعيدة وأرضها لا تزال خصبة حتى اليوم .
وقد بدأت فكرة الاستصلاح الزراعي عندما وقعت في يد الخبير المصري في استصلاح الأراضي " يحيى طه محمود " بالمصادفة خريطة لشواطئنا أعدتها البحرية البريطانية في الحرب العالمية الثانية وتبنى عليها تصوره العلمي .. فقد كشفت الخرائط أن مصر تملك مليونين من الأفدنة من أجود الأراضي الزراعية وأكثرها حيوية حيث تبلغ طبقة الطمي في متوسط تسع أمتار سمكاً ترسبت في آلاف السنين وسجل أختراعه تحت رقمي 201 ، 236 بمكتب براءات الاختراع بالقاهرة .. فقد أكد التاريخ أن النيل القديم كان له سبع فروع في الوجه البحري وكان أهم هذه الفروع هو فرع " بيلوز " وكان يروي أقصى شرق الدلتا .. وكان هذا الفرع يصب في البحر الأبيض المتوسط عند مدينة " بيلوز " التي عرفت في العصر العباسي باسم مدينة " الفارما " وقد اندثرت وموقعها الآن على بعد 35 كيلو متر إلى الجنوب الشرقي من بورسعيد .. وكان يلي فرع " بيلوز " في الأهمية فرع " كانوب " وكان يصب في البحر الأبيض المتوسط عند مدينة " كانوب " " أبو قير " حالياً وكانت الدلتا محصورة بين هذين الفرعين وكانت مساحتهما تبلغ ضعف مساحة الدلتا الحالية المحصورة بين فرعي دمياط ورشيد وكان فرع النيل البيلوزي يبدأ من رأس الدلتا القديمة عند جزيرة الوراق شمال امبابة ثم تسير شرقي الجزيرة ويتبع مجرى ترعة بحر " أبو المنجا " ويتبع مجرى " بحر البقر " القديم ويمر بمنطقة غمرتها مياه بحيرة المنزلة وتظهر أثاره عند تل " بليم " وهي أطلال مدينة " هيراكليوبوليس " " برخا " القديمة ويقطع قناة السويس الحالية بالقرب من محطة " الكاب " الحالية على بعد 25 كيلو متر جنوب بورسعيد ويصل إلى تل " الحير " ثم إلى تل " الفرما " ويصب في البحر الأبيض المتوسط عند مرفأ " المحمودية " حيث توجد أثار أرصفة بحرية قديمة مهدمة ممتدة في البحر مسافة طويلة .. وهذه الأرصفة هي بقايا الميناء القديمة التي اشتهرت في التاريخ باسم ميناء " بيلوز " على بعد 35 كيلو متر إلى الجنوب الشرقي من مدينة بورسعيد .. وكان فرع النيل البيلوزي يخترق الموقع الحالي لقناة السويس بالقرب من المنطقة المعروفة اليوم باسم " محطة الكاب " وعلى أثر طغيان مياه بحيرة المنزلة على هذه المنطقة أندثرت معالم هذا الفرع وتحولت تلك الأراضي التي كانت مضرب الأمثال في خصوبتها وجودة تربتها إلى منطقة صحراوية طغت عليها الرمال وتحولت مدينتها الزاهرة إلى تلال رمال وخرابات .
ثورة مصر الخضراء
ويقول المهندس جرجس حلمي عازر " الشاهد على الثورة الزراعية " في كتابه " ثورة مصر الخضراء " : بذلت الثورة جهوداً جبارة للاستصلاح أراضي واحات مصر الخمسة " واحة سيوه والواحات البحرية والفرافرة والخارجة والداخلة " ويضاف إليها واحة الفيوم ووادي النطرون .
بدأت بأن توجه الخبراء في أبريل 1953 إلى زراعة " شرق القناة " عن طريق تزويد المناطق الواقعة غرب قناة السويس بمياه الري ومشروعات الطرق والكباري لتعود كما كانت من قبل أرض خصبة .. وكان هدف المشروع تسكين لاجئ غزة .. واستمرت الدراسات في عام 1956 وتوقفت بسبب العدوان الثلاثي على مصر ، ثم عاد المهندس " مشيل بلدي " عام 1961 لتصميم مشروع استصلاح واستزراع 30 ألف فدان شرق القناة تروى بنقل المياه من ترعة السويس عند هويس بلدة سرابيوم .. وتنقلها سحارات تمر تحت قناة السويس والمشروع يقع شرق الطريق المرصوف " القنطرة – الشط " وأكدت الدراسات أن أراضي المنطقة الرملية أسفلها طبقة طميية خصبة .. وهذا المشروع النموذجي المتكامل بتحديد من مواقع المدن والقرى وما تحتاجه من خدمات ومساكن تم البدء فعلاً في تنفيذها وانشاء خط كهربائي هوائي يعبر القناة بكابل بحري طوله 335 متراً لتزويد المشروع بالطاقة الكهربائية وأنشئت محطة محولات الكهرباء وشبكة الضغط إلى أن جاءت نكسة 1967 وتعطل المشروع .
تعمير عاصمة مصر القديمة
اتجهت الدراسات إلى تعمير نحو مائة وسبعون ألف فدان في أقليم المنيا وهي على النحو التالي :
- أرض واقعة عند نهايات الترع وتبلغ مساحتها تسعة آلاف فدان من الأراضي الطميية الخصبة التي كثيراً ما يتعزر وصول المياه إليها .
- وتقع على شرق النيل أراضي خصبة تبلغ مساحتها 1800 فدان تزرع حالياً مرة واحدة أثناء الفيضان ويمكن بقليل من النفقات تحويلها إلى أراضي زراعية طوال العام .
- وفي مركزي بني مزار ومغاغة أراضي تبلغ مساحتها 250 ألف فدان قد ساءت حالة صرفها ويمكن مضاعفة إنتاجها إلى أقصى من ستة آلاف أضعاف .
- ويوجد شرق القناة التابعة أيضاً عشرة آلاف فدان بمنطقةالبرشا وتل العمارنة والشيخ فضل وأراضيها جيدة وليست في حاجة إلى استصلاح وكل ما تطلبه توصيل المياه إليها .
- ومدينة العمارنة التي تم البدء في تعميرها عام 1962 كانت عاصمة مصر القديمة حيث أختارها الملك أخناتون عندما تولى عرش مصر عام 1354 ق.م عاصمة لملكه وأسماها أخيتاتون وأضم إليها طمي النيل وأحاطها بحدائق وبساتين وجعل منها جنة للناظرين وصنع فيها بركاً صناعية وبنى له معبداً مفتوحاً لا سقف له وبها أيضاً مقبرة " حوبا " ومقبرة " مري رع " .
تعمير صحراء الفيوم
في مايو 1963 تقرر استصلاح وزراعة 110 ألف فدان من الأراضي البور الصحراوية أثبتت أبحاث قسمالأراضي بوزارة الزراعة جودتها وصلاحيتها .. إلا أن بحيرة قارون هي التي كانت تحول دون زراعتها .. فالبحيرة التي تبلغ مساحتها حوالي خمسين ألف فدان هي المنفذ الوحيد لصرف مياه لجميع أراضي المحافظة .. وكان الحل هو تحويل صرف مياه الوادي إلى منخفض وادي الريان وبهذا تكون المشكلة قد تم حلها والنتيجة زيادة الأراضي المنزرعة كما سيؤدي هذا الحل إلى زيادة رقعة الأراضي الزراعية التي تنزرع أرزاً من 10 آلاف فدان إلى 40 ألف فدان .
تعمير صحراء مرسى مطروح
في نفس وقت دراسة تعمير صحراء الفيوم كان الاتجاه أيضاً إلى تعمير أراضي مرسى مطروح الصحراوية والتي أدرك مجلس المعونة الفنية التابعة للأمم المتحدة المستقبل العظيم الذي ينتظر محافظة مرسى مطروح .. انعقدت اتفاقية في أبريل 1963 للمعونة في مشروع تحسين الثورة الحيوانية وتعمير الأراضي وفي ذلك الوقت كان المهندسون قد انتهوا من بناء سد وكان الأول من نوعه وهو سد " أن شطآن " ويبلغ طوله اثنين كيلو متر وهو سد ترابي وبه جزء صناعي طوله 230 متراً والبحيرة التي تكونت أمامه تبلغ مساحتها 35 ألف فدان تحجز أمامها حوالي ثلاثة ملايين متر مكعب من المياه .. وقد أنشأ المهندسون مجرى تحويلي بطول 200 متر لإمكان ري وزراعة نحو ستة آلاف فدان والغرض من بناء هذا السد حصر مياه الأمطار التي كانت تضيع هباء في البحر الأبيض المتوسط .. كما قام المهندسون بتطهير خنادق الرومان بمنطقة القصر غرب مطروح والتى كانوا يستخدمونها في الزراعة ويذكر التاريخ أن هذه المنطقة كانت غنية بزراعة القمح لدرجة أنها كانت تسمى " القماحات الغربية " كما تطرقت الدراسات لحفر خندق آخر بطول ألفين متر ويمكن الحصول منها على ألف متر مكعب من المياه يومياً .. كما أعادة حفر الخنادق التي كان الجيش البريطاني قد حفرها في منطقة باجواس وبربيطة ويمكن الحصول منها على 800 متر مكعب يومياً من الماء الصالح للشرب والزراعة .
تعمير صحراء كوم أمبو
في أواخر عام 1963 اتجهت ثورة التعمير إلى شرق النيل عند وادي كوم أمبو وكانت قد انتهت الدراسات والأبحاث التي أكدت نجاح مشروعات الإصلاح والتعمير بنفقات معقولة في مناطق وادي كوم أمبو ووادي خريت ووادي شعيث وتبلغ مساحة أراضيها التي تصلح للزراعة أكثر من 306 ألف فدان وجاء في التقارير المشار إليها أن نحو45% من أراضي هذا المشروع تروي بمياه النيل دون الحاجة إلى استخدام آلات رفع مياه الري إليها وتبلغ القيمة التقديرية لنفقات المشروع حوالي 53 مليون جنيه أي متوسط 150 جنيه للفدان .
الاتجاه إلى مريوط
بدأ العمل بمشروع " ناصر مريوط " في يناير 1967 بعد أن زارها الدكتور يوسف ميلاد وكتب تقريره إلى مجلس الإنتاج القومي عام 1955 .. جاء فيه أن القسم الغربي لصحراء مريوط تبلغ مساحتها 390 مليون فدان منها 220 ألف فدان على الأقل صالحة للزراعة .. فقد كانت هذه المنطقة غنية بخيراتها منذ قديم الزمان حتى جاء نابليون وقطع الجسر الذي يفصل بحيرة مريوط عن البحر الأبيض المتوسط فتملحت مياه البحر والأرض المجاورة والتي كانت جنة الدنيا في الماضي .. إلا أن المشروع توقف مثل سابقيه .. وبرغم مرور 39 سنة على الدراسات إلا أن الباحثين وخبراء الزراعة لازالوا على أمل أن تدرك الحكومة حجم المشروع وأن يقرأ المسئولين فيها خريطة مصر الطوبغرافية .