قبل الإعلان الأخير لوفاة القاهرة!
بقلم مجدى الجلاد ٢٠/ ١١/ ٢٠٠٨
كنت جالساً معه فى أحد مطاعم باريس.. أحمل له شعوراً بالامتنان، لاهتمامه وكفاءته النادرة فى إجراء جراحة دقيقة لشقيقى، لم يتسن لنا إجراؤها فى القاهرة.. كنا فى شهر رمضان الفائت، طال بى السفر، وتسرب إلىَّ الملل والحنين إلى القاهرة،
ولكننى كنت قد عقدت العزم على عدم العودة إلا وفى ذراعى ذراع شقيقى «إبراهيم».. لمح البروفيسور الكبير «ستيفان دو كوربيير» حنينى الذى خبأته بين الضلوع، وبادرنى برقة فرنسية أصيلة: «مصر وحشتك؟!».. تفجر الحنين وفاض من حولى وقلت: «جداً.. يا دكتور»!
لحظات.. وتذكرت واجباً فى ذمتى لرجل تعامل معى إنسانياً وليس طبياً.. فبادرته بعشم مصرى صادق: «أرجو أن تقبل دعوتى لزيارة القاهرة....»، لم يترك لى فرصة لاستكمال العبارة، رد سريعاً بصراحة فرنسية معتادة: «أرجو أن تقبل اعتذارى»..
قلت: «أعرف أنك مشغول.. لذا فلك الحق فى تحديد الموعد الذى يناسبك»، أجاب: «المشكلة ليست فى الموعد.. سأكون صريحاً معك.. لقد سبق لى زيارة القاهرة مرة واحدة، وبصراحة لم أتحمل المكوث بها عدة ساعات، وأخذت الطائرة هارباً لأى مكان، ساعتها لم يكن هدفى الذهاب إلى بلد ما، ولكن الإفلات من هذه المدينة»!
واصل دوكوربيير، وهو المدير التنفيذى للمستشفى الأمريكى بباريس، وأحد العلماء البارزين فى أوروبا: «إن القاهرة رغم ثرائها الأثرى والحضارى أصبحت واحدة من أكثر مدن العالم تلوثاً وفوضى، وأنا أعرف أضرار ذلك جيداً على صحة الإنسان، ولك أن تعرف أن أكثر من ٨٠% من المرضى المصريين الذين يأتون إلى باريس للعلاج من أمراض خطيرة هم ضحايا لهذا التلوث وتلك الفوضى.. أنتم بحاجة ماسة إلى الحياة الصحية الهادئة، وإلا ستتحولون إلى شعب مريض وعاجز»!
صمت الرجل لحظات، وأضاف: «اسمع.. الأماكن تحفر بصماتها داخل أجساد وعقول البشر.. والقاهرة بأماكنها لا تحب الناس، ولا يحبها أحد، ثمة خصومة بين الطرفين، والخصومة تصنع النفور، وما الحياة إلا نفس سوية، وذهن صافٍ، وجسد سليم، ورئة تتنفس هواءً نقياً، ومعدة تهضم طعاماً نظيفاً، وأذن لا يدمرها الضجيج، وعين ترى الأخضر والجميل.. وللأسف، القاهرة ليس بها أى شىء من ذلك، فلماذا ترد جميلى عذاباً ومرضاً وإزعاجاً؟!»
سؤال الرجل طعننى فى قلبى، وكلماته تحولت إلى «خبطات» موجعة داخل رأسى.. ومع ذلك فإن حديثى معه ليس هو كل شىء، وإنما يمكننا اعتباره مفتاحاً لكل شىء، فالقاهرة فى عرف المدن دخلت مرحلة الموت البطىء.. عاشت عقوداً طويلة فى «العناية المركزة» دون أن يلتفت إليها أحد، ولأنها كائن حى فقد وصلت إلى حالة «الموت الدماغى»،
ولم يعرها أحد نظرة اهتمام أو حتى عطف.. وبات علينا أن نرضخ لحياة تقتلنا كل دقيقة، لأننا - ببساطة شديدة - لا نمتلك إرادة الحل.. فلا نحن نرفع عنها الخراطيم ونتركها تموت فى هدوء، ولا نحن شمرنا السواعد، وتكاتفنا جميعاً، لإنقاذها من هذا «الوحل».
القاهرة التى يعيش فيها ١٨ مليون مواطن، ويتعلق بأطراف جلبابها باقى الـ٨٠ مليون مصرى، حطمت الأرقام القياسية فى كل شىء «قبيح»، تضم بين أضلعها النازفة ٨١ منطقة عشوائية،
يسكنها ثمانية ملايين نسمة.. أى أن العشوائيات تحتل حوالى ٤٠% من مسطح العاصمة المصرية «العريقة».. القاهرة «المتوفاة دماغياً» تتراوح فيها نسبة تلوث الهواء بين ٧ و١٠ أضعاف الحد الأقصى المسموح به فى المناطق السكنية، لذا فقد احتلت القاهرة القمة على مستوى المدن الملوثة عالمياً..
وأرجوكم امسكوا أعصابكم وأنتم تقرأون هذه المقارنة: «لندن» نسبة الرصاص فى الجو ٤.٤ ميكروجرام/م٣، «برلين» ٣.٨، أما «القاهرة» فقد وصلت نسبة الرصاص فى هوائها إلى ١٤.٩ ميكروجرام/م٣، كما وصلت نسبة ثانى أكسيد الكربون فى القاهرة إلى ٣٨٠ ميكروجرام/م٣، بينما المسموح به دولياً لا يتعدى ٢٠٠ ميكروجرام/م٣!!
قطعاً.. لست فى حاجة إلى رصد باقى «إنجازات» القاهرة، التى تعرفونها أكثر منى: الرقم القياسى فى الزحام المرورى.. ميداليات دولية فى الفوضى وخرق القانون.. فساد الأجهزة المحلية.. سوء تخطيط الطرق والكبارى والأنفاق.. الضوضاء القياسية.. والصمت الحكومى منقطع النظير!
شخصياً.. أحب القاهرة، رغم أننى أعيش فيها «قسراً».. وأعرف أنكم تحبونها أيضاً.. تماماً مثل العشق الذى نحمله لطعم «مية النيل» رغم تلوثها.. ولكن هل يتحول هذا الحب اليوم، وليس غداً، إلى محاولة لإنقاذ هذه المدينة قبل إعلان وفاتها الأخير؟!
أستأذنكم ألا نفرق فى هذا الحلم بين من هو «مواطن عادى» ومن هو «حكومة حاكمة».. فالقاهرة تستحق أن ننسى اختلاف وجهات النظر، وأن نعمل جميعاً لتصبح مدينة جميلة.. ربما تتعجبون من فرط حلمى، ولكننى أؤمن بأن كل «الأمانى ممكنة» بشرط توفر الإرادة الصادقة.
لنبدأ من مساحة الحلم.. ومن الحلم ستولد الأفكار المبدعة.. وفكرة منك على فكرة منها، على خطوة ومبادرة من أى مسؤول أو جهة حكومية، سنبدأ المشوار.. لذا فقد اتفقنا فى «المصرى اليوم» على أن نبدأ بأنفسنا، وسنفتح صفحاتنا لأفكاركم ومبادراتكم.. ولنجعلها فرصة لإثبات ما هو ثابت: كلنا بنحب مصر.. وكلنا نفسنا نعيش فى «القاهرة الجميلة».. فى انتظار أحلامكم وأفكاركم.