فشل جيلي فشلاً ذريعاً في تحقيق آمال الشعب العربي. قابلنا عدد من الصعاب التي أدت إلى هذا الفشل. مع أن هذا الجيل اتصف بالولاء والانتماء والتفاني في العمل لم ننجح في الوصول إلى أهداف كانت تعتبر أكيدة المنال من قِبل القادة والساسة وأهل الفكر وذوي الأحلام في أيامنا.
الجيل الذي أتحدث عنه هم من تتلمذ بالمدارس والجامعات حتى أعلى المستويات في الخمسينات والستينات. إشتمل هذا الجيل على نفر من أكثر الناس علماً ومعرفة وطاقة وإصراراً. بحماس الشباب، لم يكن في نظرنا ما لا يمكن تحقيقه واحتمال الفشل لم يكن في الحسبان. نظرنا إلى المستقبل وكأنه في يدنا واعتقدنا أننا نستطيع تحقيق رفعة العالم العربي إلى أعلى درجات التنمية البشرية في وقت قريب.
تحدثنا عن المستقبل بإرادة وعزم، وكان حديثنا يدور دائما حول أربعة آمال لابد من تحقيقها وهي:
أولاً: وحدة الدول العربية.
ثانياً: تحرير فلسطين.
ثالثاً: تحقيق العدالة الاجتماعية.
رابعاً: محو الأمية.
كانت الوحدة العربية هي الشعار الأول الذي لم يختلف عليه أي منا. إعتقدنا على حق أن العرب يوحدهم تاريخ واحد ولغة واحدة وثقافة واحدة وأماني مشتركة. في نفس الوقت كنا نعلم أن معظم الدول العربية رُسِمت حدودها بواسطة قوى خارجية منذ سنوات الاحتلال الغربي لها. تمثل هذه الحدود خطوطاً لا تأخذ في الاعتبار الوضع الطوبوغرافي أو التاريخي أو أماكن تجمع المياه أو القبائل وما إلى ذلك. جمع هذه الدول كلها في دولة واحدة أو دولة اتحادية ينتج عنه انبثاق كيان جديد قوي تكون له مكانة لائقة بين التكتلات الدولية.
كان الاعتقاد سائداً في ذلك الوقت أن الوحدة العربية سوف ينتج عنها تحرير فلسطين، مع أننا لم ندرس كيف ينتج هذا عن ذاك! شعرنا أن الشعب الفلسطيني دفع ثمناً باهظاً لعمل غير إنساني في ألمانيا النازية ضد يهود أوروبا. في نفس الوقت استطاع المسلمون والمسيحيون واليهود التعايش على أرض فلسطين منذ سنوات انبثاق هذه الأديان. لماذا إذن يُنتظر من أهل فلسطسن دفع ثمن جرائم لم يرتكبها أحد منهم؟ إضافة إلى ذلك كنا نعتقد أن إقامة دولة يهودية سوف ينتج عنه ازدياد التعصب الديني والتطاحن بين الجماعات الدينية المختلفة في المنطقة العربية بأكملها.
أما بالنسبة لتحقيق العدالة الاجتماعية فكان الوضع مختلفاً من دولة إلى أخرى. مثلاً كانت مصر مكتفية غذائياً إضافة إلى تصدير القطن المصري الذي تهافتت عليه المحالج العالمية، وكانت سوريا تصدر ألواناً وأَشكالاً من الأثاث المزخرف الراقي، وكذلك بدأت الصناعات المحلية تغطي معظم مستلزمات الأسواق العربية. مع كل هذا كان جيلي يعتقد أن في كل ذلك استعباد طبقي قاسي. كنا نتصور أن منتجي الزراعات والصناعات يمثلون طبقة الأغنياء التي تستعبد الطبقة العاملة. وكان الحل الأمثل في ذلك الوقت هو تأميم الصناعات وتحديد الملكية الزراعية بقوة القانون. جاء هذا في صورة "الاشتراكية العربية" وهي وليدة الأنظمة العقيمة التي كانت سبباً في انهيار الاتحاد السوفيتي.
اعتقدنا أن تحقيق العدالة الاجتماعية بتقسيم الثروة الوطنية بين أبناء وبنات الوطن بالتساوي ينتج عنه الوصول إلى أملنا الرابع والأخير وهو محو الأمية. كنا نعتقد أن الشعب العربي كان يكدح دون الحصول على الحقوق المشروعة لأن غالبيته أمي. وكنا أيضاً نعتقد أن الناس في العالم العربي – نتيجة الأمية – لا يعرفون حقوقهم، وحتى إذا عرفوها فليست لديهم القدرة الثقافية التي تؤهل لهم الحصول على هذه الحقوق. لذلك فليس هناك مفر من العمل على تحقيق محو الأمية وخاصة في المدن الصغيرة والقرى. كنا نتصور أن هذا يمكن تحقيقه بواسطة تنظيم وتدريب وتشجيع أعداد غفيرة من طلبة الجامعات لقضاء أجازات الصيف في تعليم الكبار والصغار القراءة والكتابة في ربوع الوطن العربي بأكمله.
أسباب الخيبة
لم تشوب الآمال الأربعة أي شائبة، بل على العكس، مازالت معظمها قائمة كأماني للغالبية العظمى من العرب في كل مكان. الأسباب الرئيسية للفشل الجماعي في تحقيقها يكمن في الوسائل التي استُخدِمَت للوصول إلى الهدف المنشود. العنصر المشترك في كل منها هو الاعتماد على دعم المؤسسات الواهية وليس بناء واحترام الإنسان القادر على القيام بالعمل. كانت المؤسسات الحكومية بأكملها غير قادرة على العمل بل عملت على تأمين مستقبلها أولاً وأخيراً. أنشأت الحكومات وسائل إعلامية استخدمت فقط للحفاظ على نفسها وانتشر الفساد واللغو وتخدير المواطنين بطنين إنجازات كاذبة. لم يكن هناك احتمال نجاح العمل على الوصول إلى آمال جيلي تحت هذه الظروف الأليمية بغض النظر عن متطلبات الناس أو حتى آمال بعض القادة.
جاءت الثورة المصرية في الخمسينات ووجدانها مشحون بالعروبة والوطنية ولم تكن فاسدة أو مدافعة عن الفساد. لكن المؤسسات التي اعتمدت عليها في تحقيق أماني الشعب أهدرت طاقته وخيبت آماله. ولقد لعبت الثورة دوراً في هذا الفشل لأنها اعتمدت في إدارة مؤسساتها على "أهل الثقة" الذين عينتهم بدلا من أهل الخبرة والمعرفة، وهكذا بدأ التأخر والتراجع.
تفشى بالمثل في باقي الدول العربية الاعتماد على من يثق فيهم الحاكم بأمره دون أهل الخبرة، وهكذا يختنق التطور ويختفي الإبداع رويداً رويداً. بدأ جيلي من أهل العلم والتكنولوجيا في الصدام مع هذه الأوضاع. هاجر البعض إلى كل بلاد الدنيا ليثبتوا أن العربي قادر على الابداع في العمل إذا توفرت البيئة المناسبة. بقي الآخر في كيان الدولة الذي لا أول له ولا لآخر. ونجح العديد منهم في تحقيق الكثير في مواقع عدة، ولكن استمرت الحكومات في حماية كيانها أولاً وأخيراً، وباتت الوحدة العربية وباقي أماني الشعب العربي وكأنها أفكار مبتورة تتطلب الإشارة إليها بين آونة وأخرى في مؤتمرات جامعة الدول العربية.
لم يكم هناك أى احتمال لتحقيق الوحدة العربية بناءً على شعور عاطفي دون دراسة وتحليل وتحديد النتائج الإيجابية لكل جانب وشرح كل هذا شرحاً مستفيضاً لعامة الناس (لهذا السبب فشلت وحدة مصر وسوريا في أوائل الستينات). لقد بدأ الاتحاد الأوروبي بين إناس يختلف تاريخهم وتختلف لغاتهم وثقافاتهم لأن قادة هذه الدول ناقشوا الموضوع من كل نواحيه وشرحوا لمواطنيهم بإسهاب المنافع المنتظرة من الاتحاد في تحسين الاقتصاد وسهولة الحركة وكذلك الأمن العسكري والمدني معاً. ولم يكن للوحدة العربية أن تتحقق خلال مناخ عدم الثقة في الجار أو خوف الضعيف من القوي الذي كان متفشياً بين الدول العربية. كان لابد من دعم القوي للضعيف وكرم الغني تجاه الفقير وذلك للمنفعة المشتركة والوصول إلى مستقبل زاهر لأبناء الأمة العربية بأكملها.
في نفس الوقت كان القرار بحل مشكلة فلسطين بالحرب قراراً واهياً فلم تكن المؤسسات العسكرية مؤهلة لذلك. وإعلان الحرب على إسرائيل غير واقع القضية من معاملة غير إنسانية لأهل فلسطين الذين سُرِقَت أرضهم ونُهِبَ وطنهم إلى الخوف على شعب إسرائيل من هجوم سبعة جيوش من الدول العربية المجاورة. وبذلك أصبح المُعتدِي في مخيلة العالم، وخاصة في الدول الغربية، مُعتَدَى عليه بل ويستحق المساعدة. كان أجدى لنا أن ندافع عن حقوق الفلسطينيين بالنداء إلى الضمير العالمي في قاعات الأمم المتحدة التي كانت في ذلك الوقت مؤسسة قوية قادرة.
ولأننا لجأنا إلى الحل العسكري تدهورت أوضاع المؤسسات المدنية وخاصة في "دول المواجهة". كان الشعار المُتداول هو "لا صوت يعلوا فوق صوت المعركة"، وكان المعنى الحقيقي لهذا الشعار: لا تسألوا عن شيء لأن كل موارد الثروة سوف تُخصص للمؤسسة العسكرية والاستعداد للحرب. لذلك تعلم الناس السكوت وقبول الأمر الواقع. نتج عن هذا ازدياد قبضة المؤسسات الحكومية ثم انحصار التقدم الاقتصادي وتردي الأوضاع على وجه العموم.
أما عن محو الأمية فقد قل الحديث عنه رويداً رويداً، وخاصة لأن الحكومات العربية رفعت شعار التعليم المجاني للجميع، شاملاً ذلك أعلى الدرجات الأكاديمية، لهذا السبب ازدادت المدارس الحكومية والجامعات وازداد عدد الطلاب فيها جميعاً دون إعداد مناسب للمقررات وطرق تدريسها. ولم يكن فتح باب الالتحاق بالجامعات مبني على خطة تحدد الاحتياجات في التخصصات المختلفة، فازداد عدد الخريجين الذين لا يجدون عملا، في نفس الوقت بقيت نسبة الأمية عالية وازدادت كثيراً في بعض الدول العربية.
ماذا نفعل؟
إذا كان جيلي قد فشل في تحقيق الأمال المذكورة، فلا مكان له في قيادة الأمة العربية ويجب أن يتنحى. يلزمنا جيل أكثر حيوية ونشاطاً، أقل سناً يتصف بالشجاعة والقدرة على الريادة لينتشل العالم العربي من الوضع المأسوي الحالي. شق طريق جديد يستلزم رؤية جديدة لجيل شاب. لذلك يلزمنا أولاً أن يعترف جيلي بالفشل ويحدد الأخطاء التي أدت إليه لكي يستطيع جيل جديد نشيط من المضي في طريق آخر.
بدلاً من الاعتماد على المؤسسات كما هي في بلدنا يلزمنا بناء الفرد العربي الذي يستطيع أن يطور المؤسسات ويقودها خروجاً عن مسارها الحالي. يجب أن نضع ثقتنا في الانسان، نُعِدُه للعمل لصالح الأمة ونثق بالفكر والابتكار والتجديد. لا يتم ذلك إلا في وجود الاحترام الكامل للانسان رجلاً كان أو امرأة، ليضيف الفرد ما هو أحسن في جو يسوده تبجيل الفكر والمعرفة وتشجيع المبادرة وتقدير الامتياز في واقع تسود فيه الشفافية واحترام المبدعين في كل أرجاء العالم العربي.
ولن أكون مبالغاً إذا ما ذكرت أن العرب في كل مكان ينتظرون رفعة مصر لأن في ذلك رفعتهم جميعاً. ولم يكن للعرب مكانة في أي وقت من الزمان إلا في وجود مصر القوية كالعمود الفقري الذي تلتف حوله البلدان العربية كلها. لذلك يلزم أن يبدأ الاصلاح والتجديد في مصر على أسس علمية صحيحة.
هذا يَعنِي أننا نحتاج إلى جيل يتصف بالثقة بالنفس والشجاعة الأدبية. أي تقدم في أي مجال يستلزم الثقة بالنفس، وهذه لا تأتي إلا من خلال العلم والمعرفة والتدريب الدائم. من يثق بنفسه يحترمه الآخرون وهذا الاحترام يحث على المزيد من المعرفة وهكذا ترقى المجتمعات المتحضرة.
إقتناء العلم والمعرفة لا يتم بسهولة، فهو يستلزم احترام الوقت والتفاني في العمل. يجب أن يعتبر العمل المضني شرفاً كبيراً وليس حملاً ثقيلاً. لابد أيضاً من تغيير فكر من يلهث للوصول إلى الثروة المالية في أسرع وقت وأسهل وسيلة. الجيل الذي نحتاجه جيل يحترم العمل للصالح العام ولا يسيطر عليه فكر جمع المال وكثرة المقتنيات. معنى هذا أننا نحتاج إلى تجميل النفس البشرية في بلادنا لكي ينهض الجيل الصاعد ويحيي أمة العرب من جديد لتحتل مكانة لائقة بين الأمم كما فعل أجدادنا.