بماذا يحلم أطفالنا؟
وهل تكون أحلامهم, التي تلاغي مخيلة أيهم, نسيجا مترابطا, متسقا, أم هلاهيل وجدانية جمعتها الصدف, وألقت بها في نفوسهم التي استحالت صناديق زبالة لبقايا أفكار ورؤي وأحلام الغير, تعبث بها قطط الشوارع المتوحشة وهي تزوم وتموء, وتقلبها, لتحمل عربات القمامة محتوياتها الي أبعد بعيد, وتحرقها لتصبح أثرا بعد عين, ثم يستقبل الصغار ـ من جديد ـ مزق خيالات الآخر يلقيها اليهم بقرف وتأفف, ويتصل آخر الدائرة بأولها.
هذا السؤال كبير جدا إذا أذنتم, وهو يزور رأسي مرات تلو مرات, قد تأملت مشاهد معرض الألفية في مدينتي ديزني بفلوريدا ولوس أنجيلوس قبل سنوات خمس.
وهناك.. غارقا في الأضواء والزحام, كان جناح اسرائيل يسعي باستخدام وسائط من لعب الأطفال الشهيرة ـ الي نشر فكرة معينة, ويركز عليها لتثبيتها في ذهن كل من زائريه الصغار, ألا وهي أن القدس عاصمة أبدية لاسرائيل.
ويمكنكم أن تتوقعوا ـ بحكم التكرار وطول العشرة ـ شكل ردود أفعالنا ـ في العالمين العربي والاسلامي ـ فقد كانت صوتية كعادتها, عنترية كطبيعتها, تطالب بمقاطعة لعب ديزني, وتناصبها أقصي درجات العداء, مختصمة ومستهدفة ليون كينج, وإنستازيا, وجوفي, وميكي ودونالد دك, داهسة فاعصة ـ في طريقها ـ محلات سندوتشات الكفتة الامريكية الشهيرة برجركينج, وماكدونالد.
ولم يتصور أحد في ربوع بلادنا السعيدة, طبيعة نظرة أطفالنا, لتلك الحرب الضروس الشرسة, التي ترفض ـ بإصرار ـ أن تبقي أو تذر.
كما لم يجتهد أحد في معرفة ما الذي يدور في نفوس أبنائنا ازاء ذلك المشهد العبثي المتكرر, الذي ينتهي ـ بالسكتة الدماغية والوجدانية ـ بمجرد الهجوم علي منتجات بيئة ثقافية تعادينا أو تتقاطع ـ بخشونة ـ مع مصالحنا وحقوقنا.
هناك شيء ينبغي أن يلي هذا الهجوم وإعلان الحروب, وإشهار السيوف, وإطلاق الصيحات, ألا وهو تقديم البديل لأطفالنا.. فهل قدمناه؟
بالطبع لا.. فهذا البديل يعني التفكير, والاجتهاد, والخلق والابداع, والشغل واحترام المواهب والمعايير, وهي أمور درجنا علي إدارة أكتافنا ـ لها ـ مخاصمين.
أطفالنا يسألون: ماذا تركتم لنا.. وأين البديل المكافيء؟ ونحن اكتفينا بإعلان الحرب, وأغمدنا رماحنا في صدور اللعب الأمريكية والمشروبات الأمريكية, والكفتة الأمريكية.
ولقد ظل هذا الملف يؤرقني ويحزنني سنة بعد أخري كلما تذكرته, الي أن وجدت نفسي أمام إجابة مفرحة مباغتة عن كل ما يستولده ويطرحه من أسئلة موجعة.
.....سارة عبد الحكيم وإيمان السعودي.
بنتان تدرسان الهندسة في جامعة المنصورة, وتستعدان للتخرج بعد أيام, اختارتا( لعبة توشكي) مشروعا للتخرج, متأثرتين ببحث اخترع صيغته ونظر لهما استاذهما د. أحمد راشد, حين حرضهما علي الحلم, وتصور لعبة مصرية, عروسة واسمها: توشكي, تعيش في بيئة تخيلية هي أرض المستقبل, في الوادي الجديد, وبناء عليه يصوغ خيال البنتين شكل العمارة, متوافقا متناغما مع البنية الاقتصادية, والعناصر البيئية, والنزوع النفسي وشكل وروح العروسة, وتختار كل منهما عملا معماريا معينا يتكامل مع ما يبدعه زملاؤها, في تصميمات لثماني عشرة مدينة علي مساحة800 ألف فدان, فيما تبلغ مساحة المدينة الواحدة35 ألف فدان.
هذه هي توشكي الأرض, وفوقها ستعيش توشكي العروسة أو اللعبة, وبينهما يمرح ويشطح وينطح خيال الابداع الفني والمعماري للبنات والأولاد ومهندس المستقبل حينما حدثتهما عبر الهاتف ـ أسأل عن الأفكار التي ضمنتاها مشروعيهما, تقاطعت جملهما, في حماس فوار, تتكلم عن أن كل مدينة يصممها أحد الطلبة لها شخصية وظيفية معينة فهناك مدينة الفنون ـ مثلا ـ التي يغلب عليها الطابع الفني, وهناك مدينة الرياضة التي تصممها إحداهن متخيلة أن أولمبياد2050 سيقام فيها.
مدينة رياضية.. مرة واحدة.. واصلت السؤال, وواصلتا الإجابة: حلم عريض بمدينة رياضية يحمل كل من شوارعها اسم لعبة تتشكل البيوت وأعمدة الإنارة ببعض مفرداتها, وشاشات عملاقة متحركة تتوسط الميادين, وتعرض أفلاما عن تاريخ كل لعبة رياضية وأشهر لاعبيها, ومشاهد من المباريات التي تدور وقائعها وأحداثها في اللحظة.
مدارس مثل النوادي أساسها تعليم اللعبات المختلفة( سباحة ـ جمباز ـ ألعاب قوي), وأنشطة رياضية للأطفال من سن أربع سنوات الي سبع عشرة سنة وثلاثة ستادات بمساحات كبيرة تحوطها غابات من الخضرة, وعناصر إضاءة كلها تأخذ شكلها من الأدوات الرياضية, ومبان خدمية ومناطق تجارية تحمل كلها ذلك الطابع الوظيفي.
ثم من جانب آخر تتأكد الشخصية باستخدام مواد بناء من البيئة مثل الحجر والطين, فضلا عن الاهتمام بمعالجات ألوان تتدرج من الأصفر الي البني, معظمها يعكس الحرارة ولا يمتصها, وكلها تناسب العناصر السلوكية والشكلية والجسمانية للمواطن المصري الذي يعيش في توشكي, فأمريكا عندما أخترعت بيئة تخيلية في ديزني كانت تصوغها وفقا لمتوسط طول أمريكي هو:(180 سنتيمترا للفرد), والصين تصوغ مبانيها ومدنها, وأثاثها وفقا لمتوسط طول صيني هو:(170 سنتيمترا) أما نحن فغير مصنفين ـ فيما يبدو ـ ولا يعرف لنا أحد وزنا ولا طولا ولا شكلا, فكأننا ناس الصدفة نعيش في الزمن الغلط.
فقط كانت بنات هندسة المنصورة يتحركن لاختراع بيئة تناسب شكل العروسة( توشكي) التي تحمل صفات جسمانية هي المتوسط الحسابي للمواطن المصري, بعد أن تأخرت محاولات متعددة لايجاد واختراع عروسة عربية( علي سبيل المثال ليلي العربية وأخيها بهدف حماية النشء من ثقافة باربي والبوي فرند صديقها, وهي ممولة ومدعمة من جامعة الدول العربية بميزانية تقديرية نحو3 ملايين دولار) أو بعد أن تم اختراع بعض العرائس الاسلامية من دون تحريكها في بيئة تخيلية تناسب واقعنا وثقافتنا وتقاليدنا( في البوسنة تم انتاج الدمية أمينة لتعكس الثقافة البوسنوية, علي حين أنتجت إيران عروسة محجبة اسمها سارة).
ربما تكون لعبة توشكي ـ تلك ـ هي المحاولة الجادة للإفلات من الاحتلال الوجداني الكاسح الذي نعيش في ظل هيمنته منذ عقود سواء بأجيال ميكي ودونالددك, أو أجيال فيرافيرو العجيب وبوبي الحبوب, أو أجيال باربي وصديقها.
وإذا كانت البيئة المستقبلية لمصر هي توشكي فلابد أن نتعامل معها بخيال عصري نربي عليه أبناءنا وبحيث يكون العمران فيها جديدا ليس بصورته فيحسب ـ بل وفي فلسفته وتنميته, إذ تتحدد مسئولية المعماري من رسالته في إعمار الأرض وتغيير للشكل وملامح المستقبل بعمل مدروس, ومنطق ثقافي وأخلاقي يغرس قيما عقائدية وأخلاقية, ويعلم أولادنا وبناتنا الارتباط بيئتهم ومفرادتها.
بيئة فيها ناس تشبهنا, تمارس أعمالا وتعيش حياة تشبه ما نمارسه ونعيشه, وحتي حين نطور شكل إدائنا ونوع عيشتنا فإنما نفعل في إطار يشبهنا أيضا.
أين مايعادل باربي, وسيارة باربي, وشغل باربي, وبلاج باربي؟
أين اللعبة العربية التي تحمل اخلاقيات ومبادئ مجتمعاتنا, والتي يجب أن نتحرك لخلقها, قبل أن ننتزع أي لعبة من أيدي أبنائنا, ونؤسس علي ذلك الانتزاع موقف انتصار مغشوش, مطلقين زفرات الارتياح, متوهمين أننا قد ثأرنا من اعدائنا, وأنهم بسبب قوتنا التي أذقناهم بأسها يتوجعون, ويتضورون جوعا وينكسرون ويشعرون بالوحدة,وانهم سوف يزحفون ـ حتما ـ علي بطونهم الاسترضائنا, وطلب العفو والصفح والمغفرة.
كل هذا الكلام فارغ وشديد السقوط, فلا نحن انتقمنا ولا انتصرنا, ولاهم جاعوا, أو جاءوا إلينا نادمين, يلعقون جراح الذلة والمسكنة.
وقبل أسابيع كنت أطرح في هذا المكان قضايا متعلقة بالصحراء المصرية, والاستثمار البيئي والسياحي والثقافي لها, وهنا أنا اواصل بالقاء الضوء علي افكار المبدعين ـ في كل مجال ـ الذين يعملون لصون حياة جديدة, وصياغة مستقبل وضاء فوق أرض تلك الصحراء(95% من أرض مصر), يعملون من أجل شئ حقيقي, وليس من أجل هذه الأوهام والترهات التي نتعاطاها ـ حشيشا ـ يغيبنا كل يوم عن موقعنا الحقيقي فوق أرض الكوكب.
واحد من هؤلاء المبدعين هو الدكتور أحمد راشد, صاحب تلك الفكرة اللامعة والعبقرية عن توشكي: العروسة والمعمار, وهو حينما شرح لي جوانبها وأستفتحني باقتباس من سقراط يقول:
سئل سقراط: متي نبدأ بتربية الطفل؟ فأجاب: قبل أن يولد بمائة عام, وسئل: كيف يكون ذلك؟ فقال: يجب أن نربي أبويه وأجداده الأربعة
ثم أضاف: من هم مستوطنو توشكي, إنهم أطفال اليوم, وأحفاد الغد, فهي ليست امتدادا زراعيا وأنشطة إنتاجية صناعية و تعدينية وسياحية فحسب, ولكنها اختراق للزمن بوصفه عنصرا متغيرا ومتواصل التأثير, لاختراع وصياغة بيئة تخيلية تفاعلت فيها الظروف المختلفة مع حواس الانسان, وضعت نسقا من اخلاق وضمير وسلوك وفكر, حيث ان مزج العلم مع الخيال هو ما يلجأ إليه الساسة والفلاسفة لصنع المستقبل وتغيير الواقع.
عروسة توشكي وعمارتها احد الطرق التي تقودنا الي العودة الي الحقيقة, واحترام انفسنا والتخلي عن ذلك الترهل الثقافي والفكري والسياسي الذي اصبح صناعة وعلما.
والاحتفال بأحمد راشد وبنتيه يحسب في صالح هذا الوطن أكبر بكثير من الاحتفال بالإجهاز علي موهوب, أو الاحتفال بعبقرية المناصب لا عبقرية شاغليها, أو الحديث عن الاوسمة والجوائز والكراسي باعتبارها المأثرة التي جاوزت كل المآثر من دون ان يذكر لنا احد من المحتفلين شيئا عما سوف ينجزه الجاثمون المتربعون علي هاتيك الكراسي.
1ـ إنتاج فائض من الغذاء مما يجعل الناس تنمو أجسادهم قوية ومخيلاتهم صحيحة.
2ـ تقسيم العمل بين أفراد المجتمع تقسيما مناسبا والذي يستدعي ترقية أهل الخبرة والمعرفة وحسن الادارة.
3ـ تأهيل الحياه الكريمة في المدن بحيث لاينشغل الناس فقط بالبحث عن قوتهم ويعيشون في بيئة صالحة .