في واحد من مواسم المحاضرات لجمعية المهندسين المصريين منذ بضع سنوات اقترح أ. د/ فاروق الباز خطة بديلة كحل شامل لمشكلات مصر السكانية والتكدس العمراني والزراعي في الوادي والدلتا.
كان صلب الاقتراح إنشاء طريق رئيسي من الساحل الشمالي إلي الحدود الجنوبية مع السودان بحيث يمتد هذا الطريق الي الغرب من نطاق العمران في الوادي والدلتا وعلي مبعدة معقولة منه داخل الصحراء وتمتد منه طرق عرضية إلي مراكز المدن الرئيسية كالقاهرة والمنيا وأسيوط وسوهاج وأسوان إلخ. بحيث تصبح نقاط التقاء الطرق مراكز عمرانية جديدة تحل مشاكل المدن الحالية. كما تضمن الاقتراح استزراع نحو مليون فدان علي المياه الجوفية في باطن الصحراء حول أو بالقرب من مسار الطريق الرئيسي وبإيجاز كان اقتراح الباز يقوم علي خلق ما يشبه واد مواز للوادي الحالي تفصلهما مساحات من الصحراء أطلق عليه د. الباز اسم ممر التعمير.
الفكرة نظريا بسيطة وتبدو علي الخرائط والصور الجوية والفضائية جميلة براقة سهلة التنفيذ ومستجيبة لمشكلات مصر المزمنة. لكنها في الواقع تستعصي علي التنفيذ لأسباب نورد بعضها فيما بعد.
نقد المشروع:
في الصفحة العاشرة من جريدة الأهرام بتاريخ17 يناير نشر الأستاذ سلامة أحمد سلامة نص خطاب موجه من أ. د رشدي سعيد الجيولوجي المصري صاحب أياد بيضاء في التدريس الجامعي والنشر العلمي وادارة وتنظيم هيئة المساحة الجيولوجية. وفي هذا الخطاب يعترض رشدي سعيد بموضوعية علي مشروع الباز في عدة نقاط منها:
1. أن قرار الحكومة بالبدء في التنفيذ كان يجب ان يصدر بعد ان يحال الي هيئة معتمدة لدراستها ورفع خرائطها وتقرير حجم مخزون المياه الجوفية في المنطقة ودراسة تربتها من حيث الصلاحية الزراعية, واخيرا تقرير الجدوي الاقتصادية علي ضوء تقديرات التكلفة الباهظة في مثل هذه البيئة الصحراوية.
2. أن الصحراء الغربية قد امتلأت بالطرق بما فيه الكفاية من شمالها الي جنوبها فمن أسيوط الي الواحات الخارجة والداخلة والفرافرة ومن الاقصر الي الخارجة ومن الجيزة الي البحرية والفرافرة ومن مطروح الي سيوة والبحرية فضلا عن الطرق الجديدة في شرق العوينات الي الخارجة والداخلة وتوشكي وهناك ايضا مجموعة من الطرق من الساحل الشمالي الي مناطق حقول البترول والغاز شرقي منخفض القطارة تصل الي مجموعة طرق صحراوية اخري في اتجاه النطرون والجيزة والفيوم إلخ..
3. فكرة استزراع مليون فدان علي مخزون المياه الجوفية فيها الكثير من الحلم بتقرير أن الاستصلاح الزراعي في الواحات(الوادي الجديد والفرافرة الخ) لم يتعد خمسين ألف فدان في خمسين سنة. وبالتالي فليس بالإمكان ضخ عشرة مليارات من الأمتار المكعبة من المياه الجوفية سنويا لري المليون فدان المقترحة.
4. فكرة أن المشروع سيمول ذاتيا من بيع الأراضي ليست صائبة لأنها تنتهي باستغلال رأسمالي شديد لسماسرة الاراضي من اجل اعادة بيع الارض بأسعار اعلي من قيمتها فضلا عن ان المشروع كله رهن بنجاح تحوطه شكوك كثيرة.
وفي عدد24 يناير من جريدة الأهرام نشر الاستاذ سلامة رد الدكتور الباز علي اعتراضات د. رشدي سعيد موجزها:
1. ان رئيس الوزراء لم يقرر اتخاذ الخطوات التنفيذية بل احال الموضوع الي لجنة وزارية لوضع أسس لدراسة جدوي المشروع.
2. اختيار مسار ممر التعمير جاء بعد دراسة مستفيضة لعدة سنوات للصحراء وصور الأقمار الصناعية.
3. الغرض ليس انشاء طريق انما هو طريق حديدي وأنبوب مياه الشرب تكون البنية التحتية من اجل فتح آفاق التنمية لممر التعمير الذي سيتصل بالوادي والدلتا بواسطة12 طريقا عرضيا.
تقييم وتحفظات:
مشروع الباز ينطلق من منطلق سياسي اجتماعي لكنه يحتاج تحقيق الكثير من التحفظات الموضوعية التي اوردها رشدي سعيد خاصة ان دراسة المخزون المائي الجوفي لم تتم بصورة تجعل هناك جدوي اقتصادية لمشروع عمراني باهظ التكلفة بحيث يصبح مشروعا دائما وليس لسنوات محدودة بتدفق المياه. هذا مع العلم انه حتي الآن لم يثبت بالدليل القاطع ان هناك اعادة تغذية للمياه الجوفية بالصحراء الغربية لا بالكم ولا بالسرعة التي يتطلبها ري أراضي الواحات الخارجة والداخلة والفرافرة وسيوة فما بالنا بضخ مياه لري مليون فدان اقل او اكثر؟
علي الخرائط تبدو السطوح الصحراوية الغربية هيئة الارتفاعات فهي أقل من200 متر في القسم الشمالي حتي قرب أسيوط باستثناء منطقة هضبية+500 متر من جنوب النطرون حتي شمال منخفض الفيوم. أما القسم الآخر جنوب عروض أسيوط فيرتفع الي أعلي من500 متر حتي حدود السودان. والسطح الصحراوي ليس منبسطا كما قد يتراءي للعين بل تكتنفه منخفضات واسعة أو ضيقة أو وديان حادة الانحدارات لا تعرفها إلا الخرائط والصور الدقيقة. وعلي هذه السطوح تراكيب مختلفة من الصخور والأحجار والرمال وتكوينات العوامل المختلفة للتعرية القديمة المائية والحديثة الهوائية في أشكال متعددة نتيجة الارتباط بأزمان المطر والجفاف التي حلت بالمنطقة خلال مئات وعشرات آلاف السنين.
وأخطر ما في الصحراء الغربية هي الكثبان الرملية. فهي تحتشد بفعل الرياح والجفاف احتشاد الجيوش وتتحرك ببطء قاتل فتطمر الزرع والواحات والقري. وفي هذا القسم أطول كثيب متحرك طوله أكثر من500 كيلو متر يعرف باسم غرد أبو محرك يبدأ كالنهر فروعا من الكثبان الهلالية والطولية من جنوب شرق منخفض القطارة ثم تتحد في جسم واحد كبير عريض مكون من عشرات الكثبان في تتابع عرضي وطولي شرقي الواحة البحرية كالمجري الرئيسي للأنهار وتظل كذلك حتي تدخل الواحة الخارجة ثم تتشتت الكثبان جنوبا إلي قرب النيل النوبي سابقا(بحيرة السد العالي حاليا).
تتحرك الكثبان الهلالية أو الطولية باستمرار وتجثم علي الطرق البرية الحديثة ولا مهرب منها سوي إنشاء طريق آخر بعيدا عن السابق إلي حين تحرك الكثبان فوقه بعد سنوات عديدة وهكذا دواليك. هي أشبه بلعبة دائمة بين قوي الطبيعة ومجهودات الناس والعلم. ابتكر الباحثون وسائل عديدة لوقف حركة الكثبان ولكنها كلها باءت بالفشل.
ماذا يجب أن نفعل: ونحن الآن نحاول أن نأخذ من الصحاري ما يمكن أخذه غصبا بتكنولوجيا عالية تتمثل في دق آبار إلي أعماق كبيرة وإنشاء المزارع وتزويد المنطقة بشبكة طرق. إذا أمكننا ذلك بتكلفة عالية وغالبا لسنين محدودة فليكن ذلك برفق, فالتنمية في بيئة الصحاري المعادية لاستقرار الإنسان بأعداد كبيرة محتومة لفقدانها المياه بالقدر المناسب ـ وليس أعلي من الماء أهمية وحيوية في الصحراء الحارة. وعلي هذا فإننا في الواقع ننمي لكي نزيد التصحر بعد حين. التنمية ليست موجهة فقط لحل مشكلات جيل معاصر بل إن جذورها يجب أن تمتد إلي أجيال مقبلة وإلا صارت لا تنمية وهدر للرقائق الهشة من إيكولوجيا وعناصر الحياة في الصحاري. ولهذا وجبت الدراسة الحذرة عندما نتبني مشروعا كبيرا كثير التكلفة حتي لا نقع في مأزق يمكن تجنبها فكفانا قرارات سريعة كأنها الحل السحري. فلا سحر في نظرية ما والسحر يقع حالما تؤكد الدراسات المتأنية جدوي وصلاحية أي مشروع, والباقي علي المنفذين ـ حكومة ومستفيدين ـ كي يتحول الحلم أو السحر إلي واقع يعيش أزمانا لنا وللأجيال التالية.