بقلم د. محمود عمارة ١٢/ ٤/ ٢٠١٠
مانشيت بالأحمر العريض على صحفتين بالجرائد الحكومية الأسبوع الفائت يقول:
«افتتاح أكبر قلعة صناعية بمدينة ٦ أكتوبر»..
وتصريح بصورة للسيد فؤاد أبوزغلة وزير الصناعة الأسبق:
«إن هذا الصرح الجديد (نقلة حضارية)، و(صناعية غير مسبوقة)».
ومحافظ الجيزة الباشمهندس سيد عبدالعزيز فى الافتتاح يعلن:
«إنه مشروع عملاق يضرب عدة عصافير بحجر واحد» بعد نقله من الجيزة حيث قيمة الأرض القديمة أصبحت بالمليارات!!
والسيد عادل الموزى.. رئيس الشركة القابضة المالكة «وهى شركة حكومية».. يفخر بإنشاء هذا المجمع الصناعى على مساحة ٣٧٥ فداناً.. وبتكلفة ٥.٥ مليار جنيه «مولت البنوك ٤٩٪ بقروض».. وافتخر سيادته بأن الأهم: «أن هذا المشروع سيغطى استهلاك الشعب المصرى لمدة خمسين عاماً مقبلة».
وسألت نفسى: ما هو يا ترى هذا «المشروع القومى» العملاق، الذى ينقلنا حضارياً ويغطى استهلاك الـ٨٠ مليون مصرى لخمسين سنة مقبلة؟.. هل هو: مشروع للبتلو وإنتاج اللحوم؟.. هل هو لإنتاج القمح ورغيف العيش؟ أم لإنتاج الزيوت التى نستورد منها ٩٠٪؟ أم لإنتاج طبق الفول والعدس لزوم طبق الكشرى مثلاً؟.
وجاءت الإجابة على الصفحة المقابلة:
إن الشركة الحكومية «إيسترن كومبانى» استثمرت الـ٥.٥ مليار جنيه «لتعبئة السجاير»، وتفتخر بأنها دفعت «كاش» ٥١٪ من الخمسة الـ٥.٥ مليار.. وأن المسؤولين القائمين على هذا الصرح مؤمنون بضرورة «استشراق المستقبل» - مكتوب كده - ولهذا فقد وضعوا خطة واستراتيجية تسمح بحرية «الحركة والمناورة» و«مافهمتش يعنى إيه مناورة؟ ومع مين؟»!!.. وأنهم يتعهدون أمام الشعب المصرى بالتالى:
١- تغطية كل الاحتياجات الحالية لاستهلاك المصريين، التى تصل إلى ٨٢ مليار سيجارة سنوياً.. مع وجود فائض بنسبة ١٠٪ لمواجهة أى زيادة مفاجئة فى الطلب.
٢- إن تصميم هذا الصرح العملاق قد تم تجهيزه بأحدث الماكينات والمعدات العالمية التى تسمح - مع تعديلات طفيفة، وبزيادة الورديات - بأن «تعبئ» أى كميات إضافية تكفى كل احتياجاتنا حتى ٢٠٦٠.
٣- إن هذا المشروع القومى يعمل به الآن «ألف عامل» «نفس عدد العمالة التى كانت موجودة بالمجمع القديم بالجيزة».. ولكن إن شاء الله «برضه مكتوب كده» يخلق فى المستقبل ١٠ آلاف فرصة عمل.
٤- إن هذا المشروع العملاق سيصبح أكبر مجمع صناعى على كوكب الأرض لتعبئة السجائر فى العالم!!
وضربت كفاً بكف.. وأنا أسترجع ما كتبته فى الأهرام منذ ١١ عاماً تحت عنوان: «مفيش قمح بدون دخان» وأرسلت وقتها مذكرة إلى عدة جهات متسائلاً: «لماذا لا نزرع «التبغ» بدلاً من استيراده، خاصة أن مصر تقع فى حزام زراعته، وقد أدخله محمد على مع القطن، وكان يعتمد على عائد تصديره لتمويل شق الترع والقنوات، وقلت إن العائد من زراعة التبغ يمكن أن نزرع به أقماحاً لسد احتياجاتنا.. و... و.. وجاء الرد وقتها: إن هناك فتوى من مفتى الديار المصرية تقول إن «التدخين حرام شرعاً» ولهذا لا يمكننا زراعته!!
وبعد أن قرأت عن المجمع العملاق الجديد سرحت أسأل سقف الغرفة:
١- كيف وجدنا بسهولة ٥.٥ مليار جنيه لاستثمارها فى تعبئة السجائر «وكان المجمع موجوداً أصلاً بالجيزة» وكان يمكن استثمار هذا المبلغ مع المبلغ الذى تدفعه وزارة الصحة لعلاج أمراض التدخين والإعلانات التى تحض الناس للتوقف = ٥.٥ مليار جنيه + إضافة ٥ جنيهات ضرائب على كل علبة أجنبية + ٦.٥ سلفة من البنوك = ١٥ ملياراً.. كانت تكفى لبدء مشروع «ممر التعمير» لفاروق الباز، ودراسة إبراهيم كامل لإصلاح ٨ ملايين فدان جديدة، تستوعب الانفجار السكانى «عدد سكان مصر سيصبح ٣٢٠ مليون نسمة»، وتجعلنا نعتمد على أنفسنا وننتج غذاءنا؟.
٢- وهل هناك أولوية لدى الحكومة أن تؤمن السجائر لخمسين سنة مقبلة، وهم يعلمون أن الناس ستموت قريباً من أجل رغيف الخبز، ومتأكدون من حريق مقبل لأسعار الغذاء، وعارفون بأن المجاعة مقبلة لا محالة خلال عامين عندما يصل سعر برميل البترول إلى مائة دولار، وتتحول الهند والبرازيل وأمريكا لإنتاج الإيثانول والديزل الحيوى من المنتجات الزراعية؟.. ولديهم معلومات مؤكدة بأن نهر النيل لن تصل مياهه لأبعد من أسيوط عام ٢٠٣٠ بعد زراعة ٣٢ مليون فدان فى السودان وإثيوبيا وتنزانيا لمستثمرين صينيين وإسرائيليين وغيرهم؟.
٣- ولماذا رفضوا اقتراحى من ١١ سنة بزراعة التبغ بدلاً من استيراده؟.. حيث إن فدان التبغ يحقق أرباحاً صافية ٣٠ ألف جنيه، وزراعة فدان القمح بعد استصلاحه تتكلف ٦ آلاف جنيه.. يعنى بحسبة بسيطة: نزرع ٢٠٠ ألف فدان «تبغ» (حول العالم ١١ مليون فدان مزروعة «تبغ») وعائدها يزرع مليون فدان «قمح».. وكل ٣ سنوات نستصلح ونزرع مليون فدان جديد، وبدورة زراعية نزرع الفول، والعدس، والنباتات الزيتية.. ونستغل مشروع العوينات بدلاً من تركه لشركات خليجية الآن تزرع البرسيم الحجازى وتنقله مجففاً كغذاء لحيوانات الخليج.. وكأننا نصدر المياه مجاناً!!
باختصار: لماذا لا نزرع «التبغ فى العوينات».. والقمح فى توشكى.. ونخلق مليون فرصة عمل ونتفادى ثورة الجياع.. ومئات الأسئلة التى أصابتنى بالصداع، والقرف من قيادات خاطفى الوطن!!
وآه يا حكومة تتحدث عن أن زراعة التبغ حرام.. وأسأل: وهل تجويع الشعب وتركيعه حلال.. والسرقة والفساد والنهب حلال؟.. وعمولات المرسيدس حلال؟ واستيراد التبغ من إسبانيا، واليونان، وتركيا، وإيطاليا، والهند وغيرها باليورو والدولار حلال؟.
طبعاً نحن نعرف أن حكاية «الحلال والحرام» ما هى إلا شماعة ليبقى الاستيراد، ولتحيا «مافيا» الاستيراد، و«عصابات» الجمارك و«شلة» الوسطاء، والمخلصاتية، والسماسرة.. وبما أن الاستيراد يحتاج إلى سفريات، وفى السفر سبع فوائد.. أقلها العمولات... و.... و... على كل حال أؤكد لكم حكومة وشعباً وعلى مسؤوليتى أننا جميعاً سنندم يوم لا ينفع الندم.. وأكرر أنه يوم أن تحدث «المجاعة» سوف يعلق كثيرون من أرجلهم فى ميدان التحرير.. إذا استمر الحال على ما هو عليه!!
وقد أعذر من أنذر.