قد نحتمل متاعب الحاضر وأعباءه ولا نضيق بالماضي وسلبياته.. إذا كنا نمتلك شفرة المستقبل والقدرة علي كشف حجب الغيب بمشروعات انمائية تستبق الأزمات الطارئة ولن يتحقق ذلك ما لم نتكهن بالبدائل والاحتمالات التي يمكن اختيارها لكيلا يبسط المستقبل جناحيه علينا عنوة في الآفاق.. وأبسط المخططات المستقبلية تفترض أن الأوضاع الراهنة ستستمر في تطورها بنفس المعدلات والكم التراكمي.. إضافة إلي أنه لا توجد خطوط حادة فاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل فقديما قال حكماؤنا: اليوم هو الغد الذي شاغلني بالأمس.
من هذا المنطلق يأتي مشروع عالمنا الجليل د.فاروق الباز محملا بعمق الخبرة وغزارة العلم وبعدا لنظر وسلامة القصد طارحا فكرة إنشاء ممر التنمية والتعمير ليتصدر المشروعات البانورامية المستقبلية التي تم طرحها مؤخرا... تحقيقات الأهرام حرصت علي تنشيط الوعي العام تجاه المشروع الذي لن يكون قوميا يجري فيه دم الحياة إلا بمشاركة القوم علي حد تعبير د. فاروق الباز.
من ولاية بوسطن الأمريكية حاورنا د. فاروق الباز عن مشروعه الطموح واختتم حديثه قائلا: هذا قليل مما تهتف به نفسي إزاء مستقبل التنمية في مصر.. يتلخص المشروع في الرهان علي استغلال الطاقات الاستثمارية القصوي للقطاع الخاص في كل المجالات حتي الطرق العامة من خلال إنشاء خط طولي بري بمسافة1200 كيلو متر مواز للنيل في الصحراء الغربية يبدأ من العلمين في الشمال حتي وادي حلفا في الجنوب ويستدرك د. الباز قائلا: الصحراء الشرقية وعرة جدا وعرضة للسيول لذلك اتجهنا صوب الصحراء الغربية ولا ادعي أنني سأعمرها ولكني اقترح إنشاء12 محورا عرضيا غرب النيل. وقد اكتشفنا أن الصحراء الغربية تتشابه في تضاريسها مع كوكب المريخ من خلال صور الأقمار الصناعية التي التقطها مكوك الفضاء الأمريكي عام2002.. الأمر الذي يساهم في تجدد آمالي بإحياء مشروع الممر الذي عرضته منذ عشرين عاما علي المهندس حسب الله الكفراوي ولم يتم تنفيذه لضيق ذات اليد الحكومية وعدم الثقة الكافية بقدرات القطاع الخاص آنذاك ولكن حين دارت الأفلاك وتصدر رجال الأعمال المشهد السياسي وعهد إليهم بمسئولية بعض الوزارات واضطلع الجادون منهم بمشروعات حيوية رأيت أن الظروف أصبحت مواتية لعرض المشروع مرة أخري وكانت المعضلة الأساسية التي واجهتني أن الناس تنفر من كلمة الصحراء نفورها من هجيرها وظلامها وحياتها الرقطاء وعقاربها السامة فكان لابد من التحايل علي تلك العقبة النفسية باستخدام تعبير الممر الطولي.. أما الممرات العرضية فستكون أشبه بالمعديات فهي تبدأ من نقاط الاكتظاظ السكاني وتتجه غربا باتجاه الصحراء الغربية وتتفاوت أطوالها وفقا للطبيعة الجغرافية وسنتمكن من إنشاء امتدادات للمدن مثلا أسيوط1 وأسيوط2 وقد خططنا ليكون محور الفيوم العرضي البالغ طوله أكثر من مائة كيلو متر هو المحور المثالي للصناعات الثقيلة ومصانع الأسمنت التي يمكن نقلها من القاهرة والدلتا والوادي إلي تلك البؤرة الصناعية الملائمة بيئيا حيث تتجه الرياح من الشمال إلي الجنوب.. حتي يكاد ينعدم التلوث لأن الجنوب صحراء جرداء ليست آهلة بالسكان ويوفر المحور العرضي لطنطا بعدا جغرافيا يزيد علي140 كيلومترا.
قاهرة المنتجعات الصحية
وتتعاظم الفائدة عند الحديث عن محور القاهرة المقترح حيث سيمنحها امتدادا عرضيا لا يقل عن ثمانين كيلومترا في عمق بيئي صحي يسمح بنقل المستشفيات والمصحات والمنتجعات العلاجية بعيدا عن ملوثات القاهرة أما محور العلمين فيشكل تعميره بشريا قوة ضاغطة علي المانيا وانجلترا لتطهيره من الألغام التي تركاها أثناء الحرب العالمية الثانية!!.
ويبشرنا د. فاروق بأن الممر يحل مشكلة توشكي العمرانية بصورة جذرية لأن الممر سيشق فضاءها ويؤنس وحدتها ويعمر جانبيها.. ويتيح الممر أيضا زراعة جنوب الوادي وكوم أمبو باستخدام مياه النيل المحملة بالطمي خلف السد الأمر الذي سيعمل علي زيادة خصوبة التربة ورفع إنتاجيتها فالممر ليس مجرد طريق طويل ولكنه مشروع انمائي متكامل.. ويضيف قائلا: سيتم امداد خط مياه للشرب بقطر لا يزيد علي متر ونصف المتر وخط سكة حديد مواز للمحور الطولي وخط كهرباء للإنارة واستغلال الطاقات البديلة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وبما أن المحاور العرضية تمتد في كل من الإسكندرية وطنطا والقاهرة والفيوم والواحات البحرية والمنيا وأسيوط وقنا والأقصر وكوم أمبو وتوشكي وأبوسمبل فالمشروع في مجمله بمثابة تنمية عمرانية وسياحية وصناعية وزراعية لمصر بأكملها ومن المقرر أن يستغرق العمل به ما لا يقل عن عشر سنوات.. وحين استفسرت من د. فاروق عن رؤيته لمصير المشروعات الإنمائية الجارية؟ فقد هاجم البعض مشروعه ونعته بأنه تشتيت للمشروعات والجهود.. إضافة إلي أن المشروع لم يتبلور وتنقصه العديد من التفاصيل!! أجاب د. الباز: محور التنمية لا يتعارض مع المشاريع الأخري.. وقد عهد د. أحمد نظيف رئيس الوزراء بالمشروع إلي لجنة فنية مكونة من ثمانين عضوا لدراسته والخطوة التالية ستقتصر علي دراسة الجدوي الاقتصادية للمشروع.. ولكنني أتمني أن يثار المشروع جماهيريا.. لأن الطرح العلمي والاقتصادي يختلف بالطبع عن الطرح الشعبي وما يحمله من أبعاد اجتماعية وثقافية يجب ألا نغفل عنها.. ويضيف د. الباز تسويق المشروع عنصر حاسم في نجاحه حتي يشب عن الطوق ويبلغ درجة النضج ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن د. فاروق الباز كان قد أوصي عام1979 بتنمية الساحل الشمالي سياحيا وحذر من التكدس وعدم الاهتمام بالبيئة وأوصي باستصلاح أراضي المنطقة والبحث عن مصادر المياه حتي لا تتدهور مثلما حدث بالقرب من مرسي مطروح ولكن ما أكثر العبر وأقل الاعتبار فلم نكترث بالنصيحة وفضحنا الطبيعة علي حد تعبير علماء البيئة وأسرفنا في استخدام المياه الجوفية في الساحل الشمالي.
خريطة القلق والغدق
الدكتور عبده شطا الأستاذ بمركز بحوث الصحراء والأب الروحي لخرائط المياه الجوفية في مصر يستهل حديثه قائلا: المركز يخضع كل الموارد المائية والحيوانية والنباتية المتاحة في الصحاري للبحث والدراسة حيث بدأ.. غزو الصحراء في الخمسينيات علي أيدي الهواة لا المحترفين ولم يدركوا آنذاك أن استصلاح الأراضي لا يتم بخطط ورقية وأرقام مستهدفة ولكنه يجب أن يخضع للإمكانات المتاحة والاجتهاد في تطويعها وعدم اغفال الحدية الانتاجية للفدان حتي لا تطغي تكلفة زراعته علي سعر بيع محاصيله وهذا لم يدركه المخططون في تلك الحقبة واكتشفوا فجأة أن المياه هبطت تحت سطح الأرض بمسافة مائة متر.. ويؤكد د. شطا أن الطموحات مهما بلغت أوجها ينبغي ألا تتكاسل عن تغيير النمط البيئي والاجتماعي وتأهيل الأفراد للعيش في الصحراء.. إذ إن التأقلم الاجتماعي لا يمكن فرضه قسرا علي الأفراد وقد فشل الاتحاد السوفيتي في تعمير سيبيريا لأنه لم يلتفت لتلك النقطة.. في حين أدركت إسرائيل أهمية تأسيس معهد الاستيطان عام1950 حيث تتم دراسة أساليب التعامل مع الأفراد وتهيئتهم للانتقال من بيئة لأخري بطريقة علمية وأسئلة عديدة هي أقرب لحساب الملكين!!.
وبسؤال د. شطا عن السند الأساسي لزراعة الصحراء أي خرائط المياه الجوفية في مصر أفاد قائلا: خلال الثلاثين عاما الماضية تم وضع العديد من الخرائط التي تمتاز بدرجة عالية من الجودة والاتقان.. فلدينا خرائط كاملة للصحراء الغربية وحوض نهر النيل بحيرة ناصر وشبه جزيرة سيناء وأجزاء من الصحراء الشرقية وخرائط تفصيلية دقيقة لغرب الدلتا والواحات وجنوب الوادي شرق العوينات وتوشكي والساحل الشمالي الغربي الذي ينفرد بكونه يرقد فوق خزان مياه جوفية ولكننا للأسف أهدرنا مياهه بصورة مخجلة وقمنا ببناء القري السياحية فوق هذا الكنز المائي.
وفي الآونة الأخيرة اختلطت مياهه بمياه الصرف الصحي نتيجة لعدم وجود أنظمة صرف أو معالجة في العديد من هذه القري والمفارقة الساخرة أن أوضاع المعدمين الفقراء في قري الدلتا تساوت مع أوضاع الميسورين القاطنين هذه القري فمصدر التلوث واحد.. ومن المتوقع إنشاء خط مياه عذبة للساحل بأكمله.. ونتيجة لسوء استغلال هذا الخزان فقد ضاعت فرصة زراعة واستصلاح منطقة سيدي البراني والنجيلة وبجوشي والضبعة وكلها مناطق كانت تصلح للمراعي الطبيعية والتين والزيتون واللوز ويضيف د. شطا: يوجد غرب الدلتا فيض من المياه الجوفية المتسربة من مياه الري الزائدة.. وفي حين منعت دولة عربية شقيقة زراعة الحبوب في أراضيها حفاظا علي مياهها الجوفية لأن الحبوب تستهلك مياها غزيرة لكنها من خلال مستثمريها تزرع الحبوب في أرضنا ثم تصدر إليهم مستغلين هذا الخزان الاستراتيجي.. ويضيف د. شطا: ونمتلك ما هو أكثر من ذلك فمصر تشترك مع تشاد وليبيا والسودان في وجود جزء من أكبر خزان مياه جوفية في العالم في منطقة الواحات بالصحراء الغربية, ولكن المشكلة أن المياه في هذا الخزان لا تتجدد بصورة تتناسب مع حجم الاستهلاك الأمر الذي أدي إلي انخفاض منسوبه بمعدل مترين سنويا.. أي أن المياه الجوفية المتدفقة في الواحات ستصبح بعد ستين عاما علي عمق خمسين مترا, عام1990 قمنا بعمل دراسة علمية دقيقة لمخزون المياه الجوفية في مصر وتوصلنا إلي نتيجة مؤداها أن السحب والإهدار والإغراق المستمر للمياه الجوفية إذا استمر بنفس المعدلات فمن المؤكد أننا سنصل إلي مرحلة قد تصبح فيها كل طلمبات المياه في الآبار معلقة في الهواء ينحسر دونها الماء وستتحول هذه الآبار إلي اطلال ننعاها.. أما الكارثة الأكبر من وجهة نظره فتتمثل في ظاهرة الغدق في وسط الدلتا وشبين الكوم وغرب النوبارية والمنيا وسمالوط وجنوب الدلتا حيث تتفجر المياه الجوفية بصورة تدعو للقلق نتيجة لغمر الأرض بالمياه وتملحها ومن ثم ضعف انتاجيتها تمهيدا لبوارها!! وفي عبارة يملؤها الأسي يقول د. شطا: الناس اعتادت سماع التحذيرات العامة وعدم الاكتراث بها طالما أنهم بمنأي عن الخطر دون الأخذ في الاعتبار البعد المستقبلي للأجيال القادمة وأسأله عن الحل المتاح لتصحيح المسار فيقول: وضع المياه الجوفية سيكون أفضل حالا إذا خططنا لزراعة مساحات أقل ذات جودة أعلي بدلا من المساحات العملاقة التي تستهلك المخزون الاستراتيجي حفاظا علي احتياجاتنا المستقبلية.
بيع العتبة الخضراء
ويبدأ د. إسماعيل عبدالجليل رئيس مركز بحوث الصحراء حديثه عن أول مستوطنة دائمة لعلماء مركز الصحراء في بالوظة حيث تم اختيار هذا الموقع تحديدا للاستفادة من المرافق العامة التي تبعد25 كيلومترا عن القنطرة.. فالصحراء إذا كانت عبر تاريخها موطنا لإلهام الشعراء.. فمن الأجدي أن تكون مرتعا علميا لأبحاث العلماء والباحثين لأن المعايشة الكاملة تنبت من خلالها المشكلة فتنشط الأفكار الإبداعية لمواجهتها.. إن مصاعب الصحراء ومغالبتها لا تلائمها المقاعد الوثيرة في المكاتب المكيفة بالقاهرة.. فيما يتعلق بالخرائط التي ترصدها الأقمار الصناعية يشير د. إسماعيل إلي ضرورة المعاينة الحقلية علي الطبيعة وعدم الاكتفاء بالخرائط لأنها كثيرا ما تختلف عن الواقع الفعلي ويشير إلي خريطة فرص الاستثمار حتي عام2017 قائلا: الخريطة تحتاج إلي المزيد من التدقيق فبعض الأراضي التي تم بيعها للمستثمرين لا توجد بها مصادر مياه.. والمشروع الياباني في الصعيد اكتنفته بعض العراقيل نظرا لأن المستثمر اكتشف عند تسلمه الأرض أن بعض الأجزاء منزوعة الملكية أو تم وضع اليد عليها.. فإذا لم نتدارك الأمر فستصبح خريطة فرص الاستثمار أشبه ببيع العتبة الخضراء الأمر الذي سيؤدي إلي إحباط المستثمرين ودخولهم في مشاكل مع جهات شتي.. بل اننا أثناء تقييم مشروع الـ400 قرية التي تم طرحها في البرنامج الانتخابي للرئيس.. وبعد أن استعرضنا الإيجابيات العديدة للمشروع وفوائده المرجوة.. طرحنا في لجنة السياسات بعض المعوقات التي يجب إزالتها علي الفور.. وأبرزها وجود مناطق صخرية يجب استبعادها من خريطة تلك القري الزراعية.. واختتم د. إسماعيل حديثة قائلا: نحن لا نتنكر لسلبياتنا والمناخ العام أصبح لا يستنكف تلك المصارحة والمكاشفة البناءة طالما أننا نضع الأمور في نصابها الصحيح حتي لا تفاجئنا صدمة المستقبل!!.